الخوف في أوريا..عندما يصنع الخوف تاريخ أوربا
يبحث هذا الكتاب الذي وضعه المؤرخ الفرنسي جون دولومو موضوعا غريبا و متشعبا ..لم تتعود الكتابة التاريخية الاقتراب منه او حتى التفكير فيه ..انه موضوع الخوف ..الغريزة البشرية التي ترافق الانسان من الميلاد الى الموت..بل يعد الموت المظهر الاختزالي لها ..و قد يكون مفهوما ان يدرس الخوف من الزاوية النفسية / السيكولوجية أو من الزاوية الدينية ..لكن ان يدرس من الناحية التاريخية فهذا يبدو مهمة صعبة.. و هي مغامرة تفرد بها المورخ الفرنسي دولومو في كتبه (الخوف في الغرب)
الخوف ليس مجرد غريزة فقط بل رمز لفقدان الأمن و الأمان في أي مجتمع سواء عندما تشتعل الفتن أو الاضطرابات أو عندما تفقد الدولة المركزية سلطتها و يغيب الأمن مما يجعل المواطن يشعر كانه ريشه في مهب الرياح و نهبا للمخاوف و الهواجس..
البحر .. الخوف الأول
اذا كان الخوف طبيعيا في أي مجتمع غي متطور و غير مسلح بشكل جيد لمواجهة الاعتداءات الخارجية..فقد وجد في أوربا مع بدايات العصر الحديث ..لكن كان هناك دائما مكان واحد يمكن للمؤرخ أن يجد فيه مظاهر الخوف في الحضارات دون مساحيق و هو البحر ..و قد انتشرت في أوربا العصور القديمة الكثير من الامثال الشعبية التي تتحدث عن البحر باعتباره شيئا عجبا..( امدح البحر ..لكن ابق على الساحل) و يذكرنا المؤلف هنا بثرات الأدب العربي القديم الذي تغنى بالبحر من هذه الزاوية ..حيث كان البحر ذا رمزية مزدوجة لأنه يرمز الى الجود و الكرم .. و في نفس الوقت الى الخطر و الموت
لكن البحر في أوربا العصور الوسطى لم يكن فقط مجرد مياه طامية تثير الخوف لذاتها بل كان أيضا مبعثا لمخاوف اخرى لأن هناك بعض الأوبئة ( السائلة) التي ارتبطت بالمياه مثل الطاعون ..كما ان البحر كان مصدر المخاوف بسبب المراكب التي كانت تأتي الى أوربا و على متنها الغزاة العرب المسلمين و النورمانديين و في زمن لاحق غارات البرابرة ..غير أن الأوربيين استطاعوا الاستئناس بالبحر بعدما ألفوه .. و خرجوا من العصور الوسطى و قد أصبحوا أكثر فهما له بفضل عاملين اثنين ..الأول يتمثل في القصائد الشعرية التي تركها الأسلاف أو كتبها الخلف حول البحر و عوالمه الغريبة و الثاني في شهادات المسافرين الأوربيين الذين كانوا يتوجهون الى القدس للحج
أشباح الماضي و أساطيره
انتشرت في أوربا العصور المظلمة ثقافة تقول ببقاء أرواح الموتى حية حتى بعد رحيلهم .. و كانت الثقافة الشعبية لا تفرق بين الحياة و الموت فعليا ..و ترى ان الماضي يبقى مقيما في الحاضر باستمرار.. و في عام 1556 ألف الطبيب الألماني جيورجيوس أغريكولا كتابه الشهير ( عن الشيئ المعدني) حيث أكد فيه أن هناك بعض انواع الأرواح التي تعيش في الأماكن السفلية..و أن بعضعها غير عدواني مثل الأقزام و المجنحين و بعضها عدواني و قاتل مثل الأحصنة الجامحة التي تقتل العمال
كانت تلك الثقافة تنتمي الى النزعة الاحيائية التي تؤمن بعالم الأرواح و القوى الخفية و كان الجميع في أوربا انذاك يتقاسمها سواء النخبة أو الطبقات الشعبية..حتى أن القس الكاثوليكي فرانسوا رابليه الذي عاش في القرن الرابع عشر كان من معتنقيها.. ذلك ان الكنيسة نفسها في تلك المرحلة لم تكن قد نجحت في التمييز الواضح بين الروح و الجسد .. و قد تطلب ذلك وقتا طويلا حتى أصبح التمييز ممكنا و كان رجال الدين يعتقدون بأن الانفصال بين الروح و الجسد لا يتحقق الا في مكانين هما الفردوس و الجحيم
و من بين المعتقدات التي كانت منتشرة في أوربا أيضا و كانت مبعث خوف للناس امكانية عودة الموتى الى الحياة من جديد و هو الاعتقاد الذي كان يطلق عليه اسم (العائدون) و تمثل بريطانيا نموذجا صريحا لانتشار هذا الاعتقاد ..اذ كان الناس يؤمنون بأن الأرض تكون في ملك الأحياء بالنهار و في ملك الأموات بالليل .. و من هنا الخوف من الليل و الظلام .. و يلاحظ المؤلف أن المجتمعات الأوربية بقيت تؤمن بهذا الاعتقاد حتى وقت قريب في العصر الحديث اذ على الرغم من أنها فصلت فصلا تاما بين عالم الأحياء و عالم الموتى فانها من الناحية العملية ظلت تؤمن بالاتحاد التام بينهما
أدى هذا الاعتقاد الى انتاج خرافات و أساطير عدة انتشرت في الثقافة الأوربية ..فحتى بدايات القرن العشرين مثلا كانت هناك عائلة في صقلية تجتمع كل مساء لتردد الصلوات خوفا من عودة أحد افرادها الذي مات حديثا..فقد كان الناس يفعلون أي شيئ للاحتماء ضد هذا الخطر..لكن اكثر الأموات الذين كانوا يثيرون الرعب هم المنتحرون و لذلك كان الاغريق يقومون بقطع اليد اليمنى للشخص المنتحر قبل ذفنه لتفادي احتمال عودته و الاعتداء على الاحياء..فقد كان الخوف من المنتحرين نابعا من الاعتقاد بأن انتحارهم ما هو سوى تعبير عن كراهيتهم للحياة و الأحياء و كانوا يخرجون الاشخاص المنتحرين نحو المقبرة من النافذة أو من حفرة تحت عتبة الباب بعد قلب صفحة وجوههم ناحية الأسفل لكي لا يتذكروا البيت و يعودوا اليه..كما أن الكنيسة كانت تعتبر المنتحرين خارجين عن كنف المسيحية و نفس الأمر بالنسبة للذين يموتون غرقا في البحر في أماكن بعيدة اذ كان الاعتقاد السائد أن أرواحهم تبقى هائمة و تشكل تهديدا لأن الكنيسة لم تصل لأجلهم (نشير هنا الى انه ليس في المسيحية ما يسمى عندنا نحن المسلمين صلاة الغائب) .. فخلال القرن السادس عشر كان للشائعات تأثير كبير على الوعي الجماعي و السلوك الفردي في أوربا .. ففي غياب وسائل الاعلام التي ظهرت فيما بعد لم يكن من الممكن للدولة أن تتدخل لكي تخبر المواطنين بالحقائق و ترد الشائعات و لذلك كانت شائعة واحدة تكفي أحيانا لتشعل الحرائق و تحدث الاضطرابات و لذلك من المستحيل تمييز الشائعات من اعمال العصيان
في انتظار الخلاص
سادت في أوربا مخاوف دورية متوالية الى منتصف القرن الثامن عشر مثل الثورات المتصلة التي كانت تقوم بسبب خوف العامة من عناصر الجيش أو بسبب الخوف من الجوع أو من ثقل الضرائب التي تفرضها الدولة .. و خلال الفترة المسماة 'نصف الألفية' ما بين 1348 و 1660 تراكمت المشاكل و المخاوف على القارة العجوز مثل الطاعون الأسود عام1348 و الانتفاضات الشعبية التي كانت تنتقل من بلد الى اخر من القرن الرابع عشر الى السابع عشر و حرب المئة عام ..
ادت هذه الكوارث المتوالية و الأوبئة الى انتشار فكرة " رعب الألفية " و قرب فناء العالم .. فقد بدأ البعض يعتقد بأنه يسمع صوت الرب و البعض الاخر رأى بأن ما يحصل هو عقاب الهي سيأتي بعده الدمار بسبب الخطايا و قال هؤلاء بقرب حلول موعد " الحكم الاخر " أو النهائي لكي يلقى كل واحد جزاء فعله .. غير أن العالم بعد ذلك أصبح أحسن من ذي قبل و سيزول استغلال الانسان لأخيه الانسان و تنتهي المجاعات و الفقر و الأوبئة و يأتي العصر الذهبي و هو ما يسمى بعقيدة الخلاص في المسيحية .. و انتشر خلال تلك الفترة الاعتقاد بالنبوءات .. فمثلا عندما قتل الملك سيباستيان في معركة وادي المخازن مع الجيش المغربي عام 1578 رفض الاسبان تصديق خبر موته و قالوا انه سيعود الى الحياة من جديد لكي يجلب النصر و الحرية لشعبه.
التهديد الاسلامي
في القرنين الخامس عشر و السادس عشر سيطر على الغرب الخوف من الغزو التركي خاصة بعد سقوط مدينة القسطنطينية عام 1453 اذ شكل ذلك صدمة نفسية بالنسبة للأوربيين و زاد الخوف أكثر بسبب تحول العديد من المسيحيين الى الدين الاسلامي سواءا حقيقة أو نفاقا لخوفهم من المسلمين الذين كانوا يأسرونهم .. بل الأكثر من ذلك أن بعض الغزوات التي قام بها المسلمين للمناطق الأوربية كان يشارك فيها هؤلاء النصارى الذين أسلموا .. بل أحيانا كانوا هم الذين يقودون جيوش الغزو
و كان اعتناق الاسلام في بعض الحالات يعني البحث عن افاق أوسع للعيش و العمل..
تصور كيف ان بعض الأوربيين كانوا يرحبون بالغزو التركي باعتباره خلاصا من الشرور .. يقول أحد الأشخاص "بما أن الرب لا يريد أن يحكم الظالم العالم فقد هيأ التركي لنشر العدل و السلطان الكبير
اليهودي .. الشر المطلق
كان المسلم و اليهودي في الثقافة المسيحية بأوربا يعتبران من أعوان الشيطان و رغم ان مارتن لوثر كينغ الذي كان يعترف بخوفه الشديد من الأتراك سعى الى جر اليهود الى المسيحية الا انه في الأخير سرعان ما انقلب عليهم و أصبح يبدي كراهيته نحوهم.. و قد أصبحت كراهية اليهود دات منطلق ديني اذ باتت تعتبر جزءا من الثقافة الشعبية العامة المنتشرة في عموم أوربا و يذكر المؤلف هنا أن اليهود لم يجدوا الترحيب بهم سوى في اسبانيا دون ان يشير الى أن السبب في ذلك هو وجود المسلمين بها بل يقر فقط بأن المسيحيين و اليهود عاشوا متجاورين في تعايش تام دون ان يتحدث عن المسلمين
من كتاب .. الخوف في الغرب ( la peur en occident)
للمؤرخ الفرنسي.. جون دولومو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق