في الساعة الخامسة و النصف مساءً خرج المصلون بعد انتهاء القداس .. و لكن جون لم يخرج معهم !
لم يكن هذا غريباً على جون الذي اعتادت أسرته على شذوذه و انطوائه الدائم و كراهيته لمن هم في مثل سنه من الأطفال .. و لكن هذا التصرف الذي أقدم عليه اليوم كان قمة غرابة أطواره !
لذلك فإنه بمجرد عودة الأسرة إلى البيت أخذت الأم تؤنب جون بشدة على الموقف السخيف الذي وضعها فيه اليوم عندما تظاهر بالخروج معهم من الكنيسة عقب الصلاة .. و لكنه بقي في الداخل بعد انصراف الجميع .. مما أضطر الأم المسكينة ؛ بعد مغادرة الكنيسة بأكثر من ساعة و اكتشافها عدم وجوده وسط أطفال العائلة ؛ للعودة بمفردها قاطعة مسافة خمسة كيلومترات على أقدامها لتبحث عنه داخل الكنيسة وبالفعل وجدته جالساً في المحراب الخالي يحدق في صور المسيح بطريقة غريبة و كأنه يراها لأول مرة في حياته !!
و الحقيقة أن جون كان مغرماً منذ صغره بتأمل صور المسيح و التحديق فيها ساعات طويلة دون ملل .. و رغم المتاعب التي سببتها هوايته العجيبة تلك لأفراد أسرته .. و خاصة لأمه التي كانت تضطر لاصطحابه كل يوم تقريباً إلى الكنيسة الواقعة على بعد سبعة كيلومترات .. فإن هذه الهواية كانت مصدر لفخر الأسرة و باعثاً للآمال في نفوسهم .. فقد كان كل أفراد عائلة هاي يعدون جون ليكون قسيساً كبيراً أو بطريركاً بل إن الأم كانت تطلب في صلاتها سراً أن تعيش حتى ترى أبنها و قد أصبح بابا روما !
و لكن ؛ للأسف ؛ فإن تطلعات جون و أوهامه كانت تنحو منحى آخر .. مختلف تماماً !
.............................
في اليوم التالي استيقظ جون مبكراً للغاية وأيقظ أمه بإلحاح غريب و طلب منها متوسلاَ أن تصطحبه إلى الكنيسة .. و قامت الأم من فراشها منزعجة و صرخت في جون غاضبة لأنه تجرأ على إيقاظها في حين أن الظلام ما زال باقياً و لم تشرق الشمس بعد !
و لكن الأم فوجئت برد فعل جون العجيب فقد احمر وجهه بشكل فظيع و لمعت الدموع في عينيه .. ثم لم يلبث أن أخذ ينشج و يبكي بحرقة و بطريقة أزعجت أمه إزعاجاً حقيقياً فأقبلت عليه و أخذت رأسه في حضنها و أخذت تربت عليه بحنان و تعتذر له عن شدتها معه و لكنها حاولت إفهامه أنها متعبة للغاية و تحتاج إلى الراحة .. كما أن الوقت ما زال مبكراً و لا يستطيعا الخروج في مثل هذا الوقت لأنهما ببساطة لن يجدا أي عربة تقلهما إلى هناك كما أن الكنيسة نفسها لا زالت مغلقة الآن !
و لكن جون أجاب على مبررات أمه قائلاً بإصرار :
- " لا .. الكنائس لا تغلق أبوابها أبداً ! "
و حاولت الأم كثيراً إثناء جون عن رغبته طويلاً دون فائدة .. حتى اضطرت في النهاية إلى مجاراته و الذهاب معه تحت جنح الظلام !
.............................
و هكذا كان جون جورج هاي منذ حداثته .. طفلاً غريب الأطوار عنيداً ورغم أن أكبر الآمال كانت معلقة عليه من قبل عائلته و كانت يُنتظر منه أن يكون حديث الناس في مدينة ( ساسكس ) فإنه قد خيب كل هذه الآمال و حطم كل هذه الأحلام .. و لكنه لم يفشل في أن يجعل من نفسه حديث الناس ليس في( ساسكس ) وحدها و لا حتى في إنجلترا كلها فقط .. بل العالم بأسره و لفترة طويلة !
.............................
عندما وصل إلى سن الخامسة عشرة بدأت علامات غريبة تظهر على جون .. أصبحت تصرفاته أكثر غرابة و بدأ يهمل في دراسته و خيم عليه صمت مطبق في البيت و خارجه حتى كاد أهله و زملائه ينسون صوته و تخلى تماماً عن هوايته في الذهاب إلى الكنيسة و التحديق في صور المسيح .. بل أصبحت أمه تجد عنتاً حقيقياً في إقناعه صباح كل أحد بمرافقتهم إلى الكنيسة .. و كانت قمة الدلائل على سوء أحوال جون وترديها وصول شهادته المدرسية و بها ست دوائر حمراء .. مما يعني رسوبه في كامل مواده الدراسية !
الأب من ناحيته لم يكن يبدي أي قلق إزاء حالة جون غير الطبيعية .. بل أعتبر كل هذه التغييرات و التصرفات الغريبة من لوازم مرحلة المراهقة التي يمر بها و كان كل المطلوب منهم ؛ في رأيه ؛ هو قليل من الصبر حتى يعبر جون هذه المرحلة بسلام !
أما الأم ما ناحيتها فقد جن جنونها لخيبة آمالها في هذا الولد الفاسد .. و بعد وصول الشهادة و بها هذه النتيجة الفظيعة أصيبت الأم بحالة صدمة و إحباط دفعتها إلى تصرفات عصبية طائشة .. و كانت هذه التصرفات ذاتها سبباً آخر في ما آل إليه جون هاي ذات يوم !
.............................
في هذه الليلة دخلت السيدة هاي على ولدها جون في غرفته فوجدت جو الحجرة معبق بالدخان و فوجئت به جالساً بالقرب من النافذة وسط سحابة من الدخان الأسود كريه الرائحة و في يده غليون رفيع قبيح المنظر تنطلق منه دوائر حلزونية من الدخان الأسود و يضعه في فمه !
جن جنون الأم لهذا المشهد .. و جن جنونها أكثر لأن جون لم يبدي أي اهتمام بدخولها الغرفة ، ولا بوقوفها أمامه .. فقد كان جالساً يدخن في هدوء دون انقطاع و كأنه لا يراها !
هذا التصرف كان كفيلاً بإطارة صواب السيدة هاي التي عرفت أخيراً سر تبدل أحوال ولدها ..
- "إنه التدخين إذن يا جون أليس كذلك ؟ !".
لم تنتظر الأم إجابة من أبنها بل لقد التقطت مشطاً معدنياً من فوق المنضدة المجاورة للنافذة و قذفته في وجه جون بحركة عنيفة .. كانت كافية لخدش جلد وجهه و إصابته بجرح رفيع غائر في خده الأيسر .. و قبضت الأم على الغليون و جذبته من يد جون بعنف و قامت بإلقائه من النافذة .. و غادرت الغرفة حانقة تاركة جون يقطر جرح خده دماً .. خطاً رفيعاً من الدم الأحمر القاني .. سال حتى وجد طريقه إلى شفتي جون وإلى داخل فمه !
.............................
فجأة عاد جون لطبعه القديم !
كان تغيراً مفاجئاً .. فكما تغيرت طباعه فجأة عادت كما كانت فجأة !
و عاد للاهتمام بدراسته و لصمته و انطوائه و التردد المستمر على الكنيسة .. و البقاء في المحراب بالساعات محدقاً في صور المسيح !
سُرت الأم لعودة أبنها لطبيعته الأصلية و قالت لأبيه متباهية أن الفضل في عودة جون و رجوعه عن تصرفاته السيئة كان حزمها و شدتها في التعامل معه .. المهم سعد الجميع بتلك النتيجة و في غمرة سعادتهم لم ينتبه أحد في أسرة هاي إلى أن جون الذي عاد ليس هو جون الذي يعرفونه !
في ليلة عيد الميلاد عام 1942 تعرضت لندن لقصف عنيف من القوات النازية .. و ضُربت أيضاً القرى و المدن المحيطة بلندن و تعرضت مدينة ( ساسكس ) لهجوم جوي مركز عنيف مما أضطر السكان جميعهم إلى هجر مساكنهم و البقاء في المخابئ لمدة زادت ؛ لأول مرة منذ اندلاع الحرب ؛ عن أسبوعين !و كانت هذه هي فرصة جون التي طالما أنتظرها !
في المخبأ تعرفت عائلة هاي على عائلة اسكتلندية عريقة الأصل تدعى عائلة آرثر .. حدث التعارف بالصدفة ثم تحول إلى علاقة وثيقة .. و كان لدى عائلة آرثر ابنة رائعة الجمال في نفس سن جون تدعى هيلما .. أسم غريب قالت السيدة آرثر أنها انتقته من بين أربعة آلاف أسم من الشرق و الغرب لغرابته و جماله .. و تصاحب جون و هيلما على بعضهما ثم سرعان ما توثقت علاقتهما بسرعة عجيبة و أصبح لا يُرى أحد منهما إلا في صحبة الآخر .. و ذات ليلة ؛ و بعد مرور خمسة أيام على بدء القصف الألماني المركز ؛ هدأ القصف فجأة و صفت سماء ( ساسكس ) و اختفت الطائرات المقاتلة من أجوائها و رغم أن الجميع كانوا يعرفون أن الضرب يمكن أن يعود في أي ساعة فإنهم اعتبروها فرصة ذهبية للخروج من المخبأ و الترويح عن أنفسهم .. و أندفع الذين لجئوا إلى المخبأ الكائن في جنوب شرق ( ساسكس ) و على بعد نصف كيلومتر من منزل عائلة هاي للخروج على هيئة مجموعات صغيرة .. و كان أول المندفعين خارج المخبأ هم أولاد عائلة آرثر و تبعهم أطفال أسرة هاي ولحق بهم الآباء من الأسرتين بعد قليل .. و لكن جون و هيلما لم يكونا ضمن المجموعة الأسرية اللطيفة !
كان جون في هذه اللحظة مصطحباً هيلما في أحد شوارع ( ساسكس ) الخالية المظلمة .. أثار جون إعجاب هيلما بذكائه و جراءته و ما يعرفه من حكايات قديمة غريبة يسميها ( ساجا ) .. و كان جون بالحقيقة يحفظ عشرات الحكايات و الأساطير القديمة الغريبة التي أبهر بها هيلما خلال فترات حبسهم الطويلة في المخبأ .. و كان من أثر جلسات الصبيين الطويلة معاً و جولاتهم المنفردة حول منطقة المخبأ أن أصبحت هيلما تثق ثقة عمياء في جون وعلى استعداد للذهاب معه إلى آخر الدنيا .. إلى الجحيم نفسه !
.............................
في الصباح التالي كان السيد دوجلاس آرثر عميد عائلة آرثر و والد هيلما يجوب مدينة ( ساسكس ) من شرقها إلى غربها بحثاً عن أبنته هيلما التي اختفت البارحة و لم يظهر لها أثر بعد ذلك !
كان أفراد عائلة دوجلاس قد غادروا المخبأ مع باقي الأسر في الليلة الماضية للقيام بجولة في المنطقة و لم يصطحبوا أبنتهم الصبية معهم لأنهم افتقدوها و لم يعثروا عليها و وظنوا أنها برفقة جون .. و لكن عندما عادوا إلى المخبأ وجدوا جون جالساً بمفرده و فوجئوا بأنه أنكر تماماً رؤيته لـ هيلما .. و لم يساور أحد من آل دوجلاس الشك في ادعاءات جون و راحوا ينتظرون عودة أبنتهم بصحبة الباقين .. و لكن تأخر الوقت كثيراً و عاد الجميع من الخارج بينما ظلت هيلما مفقودة !
و أصاب القلق العائلتين معاً و باتت السيدة آرثر ليلتها واقفة على قدميها .. و مع أول خيط للضوء أنطلق الأب و أبنيه مايكل و رونالد و معهم السيد جورج هاي للبحث عن الابنة المفقودة .. و جابوا شوارع ( ساسكس ) شارع شارع .. و لم يتركوا زقاقاً أو حارة منزوية أو شارع جانبي دون أن يفتشوه بحثاً عن هيلما .. و لكن دون جدوى !
أما في المخبأ فقد كانت الأم و كأنها تجلس على شقي جمر و رغم أن السيدة هاي حاولت جاهدة تهدئتها و مواساتها و إقناعها بأن الرجال سيعودون بـ هيلما حالاً .. فإن الأم لم تهدأ لأن قلبها أخبرها أنها لن ترى هيلما ثانية .. و قد صدق قلب السيدة آرثر في هذا تماماً !
.............................
مرت خمسة أعوام و صار جون شاباً يافعاً مستقيم القد ممشوق القوام جميلاً وسيماً يخطف الأنظار بوسامته و أناقته .. تخرج في مدرسة ( سير مولتن ) العليا للفنون و تعلم الرسم و النحت و أجادهما ببراعة و حصل بتفوقه و نبوغه على إعجاب أستاذه سير إدوارد تومسون مدرس النحت العتيق و الفنان الماهر الذي لمع توقيعه على أشهر القطع النحتية في فترة الأربعينات و الخمسينات في أوروبا .. كان جون مغرماً برسم و نحت نماذج للجسم البشري .. كانت نماذجه بالغة الجمال و بارزة التفاصيل أشبه ما تكون بالتماثيل الإغريقية للأبطال الرياضيين .. و لكن سير مولتن لاحظ أن جون يهتم أكثر ما يهتم بإبراز العضلات و العروق في نماذجه .. و كأنه لا يرى في الجسم البشري سوى العضلات و العروق !
و الخلاصة أن جون كان في هذه الفترة سعيداً بحق .. سعيداً في البيت مع أسرته و متمتعاً برضاء الوالدين التام عليه .. و سعيداً في دراسته بتفوقه و إعجاب أستاذه العتيد و رضاءه عنه .. و الأهم من كل ذلك أنه كان سعيداً للغاية في حياته الأخرى .. حياته السرية التي تشبه الضباب و التي يحيها بجسد جون جورج هاي وبعقل مخلوق أسطوري لا شبيه له على الأرض .. مخلوق متوحش غريب !
.............................
غادر جون المدرسة برفقة مجموعة من أصدقائه و زملائه في الدراسة .. و توجهوا نحو بار شهير في قلب لندن و عبوا من كؤوس الخمر حتى ثملوا و تطوحوا في الهواء .. ثم أصطحب كل منهم رفيقته ليقضوا بقية الليلة في مكان آخر .. و كان من نصيب جون مرافقة فتاة حسناء تدعى (هايدي) .. الغريب أن كل الفتيات اللائي قُدر لهن التعرف بـ جون كانت أسماؤهن تبدأ كلها بحرف ( الهاء ) !
.............................
قبضت هايدي بشدة على ساعد جون وهي تسير معه خلال الأزقة و الحارات الخلفية المعتمة .. لم تكن تفهم غرام جون بالشوارع الهادئة و الحياة المنزوية و حبه للصمت و الظلام و السكون .. لم تستطع فهم هذا المزاج الغريب و لكنها حاولت تقبله و التعايش معه إستوهاباً لرضاء جون الذي كانت قد سقطت في غرامه بالفعل .. لسوء حظها !
لذلك فإنه عندما عرض عليها جون ؛ بعد إنتهاء سهرة البار ؛ الخروج معه و مصاحبته في نزهة صغيرة عبر شوارع لندن كان عرضه هذا أجمل عرض تلقته في حياتها و أهمها و أخرها أيضاً !
كانت هايدي من سكان لندن الأصليين و كانت تعرف المدينة شارعاً شارعاً بداية بالميادين و الشوارع الكبرى مثل شارع ( ... ) و حتى الحارات الضيقة الملتوية المظلمة الواقعة في حي (... ) ولكنها برغم ذلك وجدت نفسها فجأة و جون يقودها عبر شوارع و أماكن لم يخطر على بال أنها موجودة في لندن !
كان الشارع الذي يسيران خلاله شارعاً غريباً معتماً و كانت أكوام القمامة و القاذورات متراكمة في جنباته ناشرة رائحة عفنة سامة بينما كان هناك دخان رمادي غريب لا ترى مصدره يملأ الشارع .. شعرت هايدي بالخوف و لكن وجود جون بجانبها جعلها تحاول التظاهر بالشجاعة .. بغتة جرها جون من ذراعها و ألصقها بحائط عاري من الملاط في أشد أركان الشارع ظلاماً .. كانت يده تداعب عنقها بشكل متوتر و الرعشة تهزها .. سرت هايدي ظنت أنها يريد أن يقبلها فاستسلمت له تماماً .. و لكنه زاد من ضغط أصابعه على عنقها أكثر و أكثر .. لم تهتم هايدي وضحكت قائلة له في مرح :
- " شوارع كهذه وفي لندن نفسها ؟! "
لم يرد جون عليها .. و فجأة تحولت المداعبة إلى مذبحة !
فـ جون الرقيق أنشب مخالبه فجأة في عنق رفيقته بقسوة رهيبة كان من الواضح أنه يحاول انتزاع حنجرتها !
أجفلت هايدي واستولى عليها رعب رهيب و حاولت الصراخ .. و لكن يد جون الباردة القاسية التي تحولت فجأة إلى ملزمة أطبقت على فمها .. حاولت هايدي التملص بكل الطرق و لكن لا فائدة مع هذا الوحش الحديدي الذي يطبق عليها .. و بعد صراع أستمر ستة عشرة دقيقة لفظت هايدي بيشوب أنفاسها بعد أن قطع جون حنجرتها بيده و انتزعها من مكانها .. و كادت تهوي أرضاً .. و لكنه لم يتركها تفعل .. فقد أمسكها بقوة و ألصق شفتيه بعنقها كالعلقة .. و مضت نشوته تتزايد من كل قطرة دم جديدة يلعقها و يستمتع بمذاقها !!
و راح يمتص الدماء في شراهة مردداً في سخرية :
- " نعم يا عزيزتي في لندن نفسها " !!
.............................
آثار اختفاء هايدي بيشوب الذعر في المدرسة .. قيل أنها كانت برفقة زملائها في سهرة صاخبة في أحد البارات بوسط لندن و قضت الوقت معهم .. ثم غادرت البار و لا أحد يعرف ماذا إذا كانت قد ذهبت بمفردها أو برفقة أحد ما !
كانت هذه هي كل ما أدلى به رفاقها من معلومات .. أما جون فقد أكد أنه لم يرها بعد سهرة البار و لا يعرف أين يمكن أن تكون قد ذهبت !
و أخذت أقوال كل زملاء هايدي ثم أرسلت برقية لأسرتها التي كانت في هذا الوقت تقضي الشتاء في ( فينيسيا ) الإيطالية .. و حضرت والدة هايدي و والدها السير هنري بيشوب الثري المعروف و عضو البرلمان و كانا في حالة بالغة من الذعر والاضطراب .. خاصة و أن هايدي كانت فتاة مهذبة رقيقة ليس لها علاقات غير مرغوب فيها و لم يسبق لها الاختفاء أو الهرب من المنزل ، كما أنها أبنتهما الوحيدة العزيزة !
و حاول السيد بيشوب بعلاقاته المتعددة و شبكة المعارف الهائلة التي يمتلكها أن يعرف أي معلومات عن أبنته .. لدرجة أنه كلف تحري خاص بالبحث عن هايدي .. و لكن كل هذه الجهود لم تأتي بأي نتيجة و ظل اختفاء هايدي لغزاً .. لغزاً لا يملك حله في الكون سوى هذا الفتى الوسيم الهادئ الذي لم يتسرب إليه الشك إطلاقاً .. جون جورج هاي !
و بعد مرور بضعة أشهر أوقف البحث عن هايدي و أغلقت قضيتها و أقفل ملف القضية و سُلم إلى محفوظات ( سكوتلنديارد ) لحفظه .. و خلف هذا راحة عميقة في نفس جون إلى حد أغراه بالبحث عن ضحية أرستقراطية جديدة بعد أن شعر بالأمان .. على الأقل ليستطيع أن ينسى طعم دماء فتيات الليل الذي مل مذاقه الكريه !
.............................
لم يكن هناك طريق وسط الغابة .. كانت الأشجار كثيفة للغاية و متشابكة بشكل جعل المرور عبرها شبه مستحيل !
و لكنه هو عندما أقترب انفتح الطريق فجأة و توسعت الأشجار تاركة له طريق عريض واضح عبرها .. لم يكن له ملامح محددة ، فقط كان كتلة من اللونين الأسود و الأحمر .. مشى المخلوق الغامض وسط الأشجار و ظل يمشي و يمشي حتى أتى إلى وسط الغابة .. و هنا مد يده خلفه ثم أستخرج كوب من مكان خفي و حمله و أقترب منه من أحدي الأشجار .. اقترب من الشجرة التي راحت ترتجف و تهتز و ترتعش .. اقترب المخلوق و اقترب ثم مد يده من لحاء الشجرة و بدأ يلمسه بحنان و رفق .. و أخذ الرجل يربت و يربت على الشجرة التي توقفت تماماً عن الاهتزاز و استقرت مكانها فترة طويلة .. ثم قرب وجهه الخفي منها و أخذ يناغيها بصوت غريب و بكلمات بلغة غير مفهومة .. و بعد لحظات بدأ لحاء الشجرة يقطر قطرات من سائل أحمر غليظ .. و أخذ اللحاء يقطر و يقطر حتى امتلأ الكوب الذي يحمله الرجل في يده !
استيقظ جون فزعاً و تلفت حوله خائفاً مذعوراً .. ثم نظر إلى الكوب الموضوع بجواره على المنضدة و مد يده إليه و جرع ما به في شربة واحدة !!
.............................
ألقت هانا الكرة ببراعة في السلة فعبرتها بسرعة البرق مسجلة هدفاً جديداً لفريق ( جولدن بيتش ) لكرة السلة .. كان الفريق يتصدر دوري السلة النسائي و كانت هانا أوبنيان هي نجمة الفريق المتألقة و بطلته المحبوبة التي يحصل على البطولات دائماً بفضلها !
و قد تعرفت الآنسة أوبنيان على فنان شاب حساس أشتهر و لمع أسمه بعد حصوله على الجائزة الذهبية في معرض دولي للنحت أقيم في لندن مؤخراً عن تحفته الرائعة ( مخلوق الحلم ) !
كان هذا الشاب الوسيم قد تعرف بـ هانا عن طريق صدفة مدبرة ببارعة في أحد بارات لندن الراقية .. تعارفا و تبادلا كلمات قليلة كانت كافية لإشعال إعجاب هانا بهذا الصبي الغر المفتون الذي سقط في أحابيلها ببساطة كما توهمت !
و بعد مرور أسبوعين على بدء تعارفهما كانت العلاقة بينهما قد وصلت لحد يسمح له بأن يعرض عليها السهر معه في حفل خاص بصديق له في منزل واقع بأطراف لندن .. و هكذا ذهبت هانا لتصطاده هناك و توقعه .. بينما كان هو يعتقد أنه من سيوقع بها !
.............................
بكامل زينتها كانت هانا تقف أمام باب المنزل في الموعد بالضبط .. قرعت الجرس و بعدها بلحظة فتح لها جون الباب بنفسه .. و قادها عبر سلم حلزوني ضيق مظلم إلى الطابق العلوي .. تعجبت هانا من قبح المنزل و قذارته و سألت جون ضاحكة عما إذا كانت أمه قد نسيت أن تركب له أنف و هو صغير !
جاراها جون في مزاحها وعرض عليها أن يحضر لها أي مشروب تريده ، فطلبت قليلاً من الروم و خلعت معطفها وجلست باسترخاء فوق أحد المقاعد .. تعجب جون لأنها لم تسأله عن الحفل أو عن صديقه ، و بينما كان يعد لها الشراب في المطبخ أخذ يفكر قلقاً في هذا الأمر حتى أنتهى في تفكيره إلى أنها فتاة محنكة خبيرة و لابد أن هذا الموقف قد مر بها من قبل مما جعلها تدرك الأسباب الحقيقية للدعوة .. سر جون لذلك و خُيل إليه أن الصيد سيكون أسهل كثيراً من المتوقع ..
المهم أن جون عاد حاملاً كأسا من الروم به كمية وافرة من المخدر و قدمه لـ هانا بحركة رشيقة .. فتناولته الفتاة منه و قربته من شفتيها و كادت ترشف منه .. و لكنها فجأة تراجعت عن شربه و وضعته فوق المنضدة الخفيضة الواقعة بينهما ثم دعت جون للجلوس بجانبها .. و جلس جون بجانبها على المقعد مرتبكاً و أخذا يبادلان حديثاً مكرراً سخيفاً أصابه بالملل .. فجأة سكت جون و أخذ ينظر لـ هانا نظرات غريبة .. كان قد وصل لقمة الظمأ و طال انتظاره أكثر من أي مرة سابقة .. إنه لم يعد يستطيع الانتظار ، إنه يريد أن يتذوق دماء هذه الفتاة .. و الآن !
فجأة تحرك جون و لكن حركة هانا كانت أسرع منه .. و قبل أن تصل يده إلى عنقها كانت قد قبضت عليها بيد من حديد و أوقفتها في الهواء .. ترنح جون و فزع من هول المفاجأة .. حدقت هانا في وجهه طويلاً بنظرة سوداء بغيضة يعرفها جيداً .. فقد سبق له أن رآها آلاف المرات في صورته المنعكسة في المرآة !
أخذت هايدي تحدق طويلاً فيه .. ثم فجأة تخلت عن يده و أخذت تضحك .. كان ضحكاً متواصلاً هستيرياً أثار جنون جون ؛ الذي نال ما يكفيه من خيبة الأمل هذه الليلة !
صفقت هانا بمرح و قالت بسخرية :
- " نعم يا عزيزي .. تصور .. في لندن نفسها !! "
صُعق جون و عجز عن النطق .. بينما تركته هانا غارقاً في ذهوله و تناولت معطفها و أخذت تهبط السلم العفن المظلم في طريقها إلى الخروج !!
.............................
ظل جون جالسا كالتمثال مكانه و هو يسمع صدى صوت خطوات هانا على السلم .. كان يحدق فيما بين قدميه و قد أصابته الضربة على أم رأسه بالضبط فأفقدته قوته و قدرته على التصرف .. و لكن بغتة لمعت عيناه ببريق شيطاني يخيف الشيطان نفسه و وثب من مكانه و ألتقط سكيناً ضخماً يحتفظ به أسفل حشوة المقعد الذي كانت تجلس عليه هانا .. ألتقط السكين و قفز درجات السلم كلها في خطوة واحدة ليلحق بـ هانا .. أحست به هانا و تصدت له بجراءة و عندما حاول طعنها بالسكين تفادتها ببراعة .. ثم ضربته بقبضتها في صدره فأحس أنها حطمت قفصه الصدري .. ركلته هانا ركلة عنيفة أوقعته على السلم ثم أسرعت محاولة الفرار .. و لكنه بالفعل منعها و أوقفها بأن تمكن من غرس السكين في رقبتها من الخلف .. و سقطت هانا مرة واحدة .. سقطت و تدحرجت على السلم و هناك حشرجة غريبة تنطلق من حلقها المقطوع .. سقطت و سقطت حتى وصلت إلى بئر السلم .. و هناك لفظت أنفاسها الأخيرة !!
استعاد جون أنفاسه الهاربة و بدأت انفعالاته تهدأ شيئاً فشيئاً .. و كاد يهبط السلم ليلحق بضحيته ليحتفل بانتصاره العظيم ، و أي انتصار .. و لكنه عندما نظر ليده المخضبة بالدماء صُعق .. فلم تكن دماء هانا تلك التي تغطي معصمه .. بل كانت دمائه هو !
لا سبيل للشك في ذلك .. لقد تمكنت هانا قبل أن يقضي عليها من أن تهبه العضة القاتلة .. عضة مصاص الدماء التي لا شفاء منها !!
.............................
كان السير إدوارد تومسون جالساً في مكتبه يتفحص في إعجاب آخر قطعة نحتية أنتجها تلميذه النجيب جون جورج هاي و أهداها له .. كانت هذه القطعة على شكل صبية في حوالي الرابعة عشرة من عمرها ، جميلة مستقيمة القد يفيض وجهها ملاحة و براءة و تفاؤل .. و قد أبدع جون حقاً في تفاصيل التمثال بشكل جعل السير تومسون نفسه ، المعروف بتحفظه الشديد و نقده الدائم لأعمال تلاميذه ، لا يتردد في إظهار إعجابه الشديد بل و افتنانه بهذا العمل الرائع .. حتى أنه علق أمام باقي تلاميذه ممتدحاً العمل بدون تحفظ و وصف جون بأنه فنان فرعون .. و مؤكداً أن جون بالتأكيد به دم مصري قديم ورثه عن أسلاف عاشوا في طيبة من آلاف السنيين و وهبوا جون هبة الفن الخالد !
و لكن السير تومسون و هو جالس الآن يتفحص التمثال بعين الناقد المعجب كان يراوده شعور غريب .. هو لم يكن رجل ممن يؤمنون بالروحانيات و الأنفس الشفافة التي ترى ما هو وراء الأمور المادية .. و رغم أنه فنان إلا إن فنه لم يكن معتمداً على أي قدر من الحس و المشاعر الجمالية بل كان معتمداً تماماً على المقاييس الرياضية و المعادلات الفيزيائية .. و لكنه الآن يشعر بشعور لا يعرف كيف يصفه .. كان يقلب التمثال بين يديه و يدور حوله متفحصاً كل تفاصيله الدقيقة .. و ظل السير إدوارد يتفحص التمثال حتى وصل إلى قاعدته و هناك راوده
شعور غريب يطلب منه بإلحاح أن ينظر في قاعدة التمثال .. و بالفعل بذل الفنان الرصين جهده ليتمكن بيديه الهزيلتين المسنتين من رفع التمثال على قاعدته .. و عندما أرتفع التمثال وجد السير إدوارد على قاعدة التمثال كتابة صغيرة جداً بخط جون الذي يعرفه جيداً .. و كانت الكتابة لا تتجاوز سطر واحد يقول :
" إلى روح هيلما آرثر .. التي كانت أول قربان لي أمام سيد هذا العالم الغريب الساحر "
و هنا لم يتمالك سير تومسون نفسه بل وجد نفسه يطلب سكرتير المدرسة و يطلب منه ملف جون جورج هاي فوراً !
.............................
كانت الغابة تقف مرة أخرى شامخة مهيبة كثيفة لا تسمح لرجل بشرية أن تشقها .. و لكنه عندما أقترب منها مرة أخرى تفسحت الأشجار و توسعت تاركة له طريق عريض عبرها .. عفواً فلم تكن أشجار هذه المرة بل كانت صلبان .. صلبان حجرية ضخمة تتجمع مكونة غابة كثيفة عجيبة من الصلبان المتجاورة المتشابكة .. و في هذه المرة أيضاً كان الرجل الغامض ؛ الذي لا يمكن رؤية ملامحه أبداً ؛ حاملاً كوبه العزيز .. و مر به وسط الصلبان التي أنت عند اقترابه منها و حنت إليه .. و عندما أقترب الكوب منها أخذت الصلبان تنزف دماءً غزيرة تسيل على أوتادها الرأسية و تملأ الكوب الذي يحمله الرجل .. و لكن في هذه المرة لم يستيقظ جون فزعاً ربما لأنه أدرك ؛ للمرة الأولى ؛ أنه لا يحلم مطلقاً .. و أن ما يراه أمامه هو الواقع حتى و إن بدا عصي على التصديق .. تغلب جون على مخاوفه و أخذ يقترب من الرجل الغامض المتواري في رداءه الأسود الأحمر حتى صار قاب قوسين منه .. و عندئذ ألتفت له المخلوق العجيب .. و قدم له الكوب الممتلئ دماً .. تناول جون الكوب بعد تردد و رفعه إلى شفتيه و كاد يرشف منه أول رشفه مستمتعاً بمذاق الدماء التي لم يتذوقها أحد من البشر من قبل .. و لكن فجأة هبت ريح رمادية باردة و أزاحت الغطاء عن وجه المخلوق الغامض .. و ذعر جون عندما نظر و رأى .. و ساءه ما رأى .. فلم يكن الملتف بالرداء سوى هانا .. هانا أوبنيان .. نفسها جاءت إليه مرة أخرى !!
.............................
أثارت اعترافات جون جورج هاي الذعر في ( ساسكس ) و في بريطانيا كلها .. و دوت أخبار محاكمته في كل أنحاء أوربا .. و قيل أن الشرطة اقتحمت المنزل الذي يستأجره في أطراف لندن لتجده في حالة تشبه الاحتضار و تم تفتيش البيت .. فكانت نتائج التفتيش مثيرة للذعر و الاشمئزاز .. أكواب و ملابس و ملاءات ملوثة كلها بدماء ، ثبت بعد التحليل أنها دماء بشرية .. و بقايا جثة طافية فوق حوض من حمض ( الكبريتيك ) كان جون يحتفظ به في قبو المنزل و أعترف أنها جثة رفيقته هانا أوبنيان لاعبة السلة الشهيرة .. و تم اقتياده إلى مركز البوليس و تم استدعاء طبيب للكشف عليه و تقدير مدى خطورة حالته الصحية .. و بعد يومين جاءت نتائج التحاليل مذهلة .. فـ جون جورج هاي لا يعاني من أي متاعب أو اضطرابات صحية بل على العكس فهو في أتم صحة و أحسن حال ممكن .. إذا فلماذا يحتضر ببطء ؟!
لم يعرف أحد من الأطباء السبب في حالة جون الغريبة .. و لم يحاول جون الإنكار أو إخفاء أي معلومات أو حقائق .. بل على العكس فقد أعترف بأشياء لم تكن أصلاً ضمن الاتهامات التي وجهت إليه .. و هكذا و بدلاً من أن يتم توجيه تهمة القتل العمد له في قضية هانا أوبنيان فقط وجهت إليه تهمة القتل العمد لثمانية عشر قتيلاً .. خمسة عشر منهن من بنات الليل و الثلاثة الباقيات هن هيلما آرثر التي اختفت في مدينة ( ساسكس ) في أوائل عام 1943م ، و الثانية هي هايدي بيشوب التي اختفت في عام 1947 بلندن .. و أخيراً الآنسة أوبنيان التي تم العثور على بقايا جثتها في منزل جون !!
و هكذا اكتملت كل أدلة الاتهام و أضيف إليها أهم عنصر على الإطلاق .. و هو اعتراف " جون الرسمي الكامل الذي تبرع به بمحض إرادته !
و رغم محاولات أسرة هاي لتبرئة أبنهم و محاولاتهم لتوكيل أكبر محامي في إنجلترا للدفاع عنه فإن جون رفض كل هذه المحاولات .. و بدا حريصاً ؛ أكثر من أسر الضحايا أنفسهم ؛ على أن ينال حكم الإعدام دون إبطاء ..
و كان لـ جون مبرر وجيه في هذا .. فهو يعرف جيداً أنه لن ينجو مما أصابه .. لن ينجو من عضة هانا أبداً ، و إذا لم يتم إعدامه بسرعة فإن مصيراً أسوأ من الموت بانتظاره ..
و بالفعل فلم يتوان القاضي عن الثأر لكل ضحايا جون .. و لم يتأخر عن تلبية رجاء جون .. فأصدر حكم إعدامه بعد جلسات محاكمة قليلة هزت بريطانيا هزاً .. و ظلت في مخيلة جيل كامل عاش هذه الأحداث !
و إلى الآن لا تزال القطع النحتية الموقع عليها باسم (جون جورج هاي) تقف في أهم المتاحف في بريطانيا .. شاهدة على العبقرية .. العبقرية المريضة المشوهة !!
تأليف : منال عبد الحميد
المراجعة والإخراج الفني : كمال غزال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق