تضايقت من هذا الأمر جداً و كدت أنصرف .. و لكنني فكرت قليلاً ، و عدت أدراجي من عند باب الفندق بعد أن كدت أغادر بالفعل .. و تذكرت أنني يجب أن أعذر ممدوح العزيز .. فهو طوال عمره نذل و معتاد على إخلاف مواعيده بشكل يجعل وفاءه بأي موعد يستدعي مصرع مئة يهودي على الأقل !
جلست إلى منضدة صغيرة لطيفة بجوار نافذة ضخمة تطل على بانوراما للقاهرة الأوربية الخنفاء .. أخذت أتطلع من النافذة بضع ثوان ، حتى وجدت خادم يمر بجواري فاستوقفته ، و طلبت منه إحضار كوب من الليمون فوراً .. ذهب الخادم ليأتي بما طلبته .. و عدت أنا لتأمل البانوراما القاهرية الرائعة من خلال النافذة .. نظرت إلى ساعتي فوجدت أنها العاشرة و الثلث مساء .. ساعة كاملة مرت على الموعد الذي ضربه "سي ممدوح " لي هنا دون أن يحضر بسلامته .. جاء الخادم بالليمون ، فاحتسيته ببطء متعمد .. ثم عدت للنظر إلى الساعة فوجدت أنها تعدت الحادية عشرة !
- " الله يخرب بيتك يا ممدوح " ، قلتها في سري و أنا أصر على أسناني غيظاً و غلاً
وفجأة قررت أن أغادر مهما كانت النتائج !
وبالفعل جمعت حاجاتي .. مجرد الموبايل و علبة المناديل التي وضعتها على المنضدة أمامي .. وضعتهما في جيبي ، و نهضت من مكاني ، بعد أن تركت ثمن المشروب و بقشيش محترم على المنضدة .. اتجهت نحو باب الفندق في نفس اللحظة رأيت فتاة شقراء جميلة تدلف من الباب .. كانت الفتاة رائعة الجمال حقاً ( تحل من على المشنقة يعني ) و سعدت لرؤيتها هذا المساء الرطب .. و لكنها للأسف كانت تتأبط ذراع شاب فارع بسلسلة و لبانة و ترافقه إلى داخل المطعم .. كنت بالضبط قد أصبحت خارج الفندق عندما خطر لي فجأة خاطر غريب .. أحسست فجأة أنني قد رأيت هذه الفتاة من قبل ، رأيتها و أعرفها جيداً .. نفضت رأسي محاولاً تذكر أين رأيتها و متى فلم أفلح .. شيء واحد أصبحت على ثقة منه .. أنني قد رأيت هذه الفتاة من قبل ، رأيتها و أعرفها جيداً ، بل و أعرف الشاب المائع الذي يرافقها .. أعرفهما جيداً .. بل و أعرف ما سيحدث الآن داخل الفندق .. أعرفه و يجب أن أمنعه !
..........................
دخلت وراءهما إلى قاعة المطعم .. فوجدت الشاب المائع يسحب كرسياً و يقدمه للفتاة بحركة أنيقة تعبر عن شياكته و أناقته .. جلست الفتاة معبرة عن شكرها له بهزة رأس فاتنة فأهتز شعرها المنسدل الجميل .. بينما ابتسمت أنا باستهانة و قلت في نفسي بغيظ :
- " عفواً يا صديقي .. تظاهر كما شئت .. و لكنني أعرف ماذا سيصدر منك بعد قليل ! "
بالفعل كنت أعرف ماذا سيحدث الآن .. قل أنني مجنون أو خيالي أو معتوه .. قل ما شئت و برر كيفما شئت .. و لكنني متأكد أنني قد رأيت هذا المشهد من قبل .. رأيته و عشته بكل تفاصيله ، بأدق تفاصيله .. و إذا كنت في المرة السابقة وقفت متفرجاً و لم أستطع أن أمنع هذه الجريمة التي ستقع الآن ؛ مرة أخرى ؛ تحت سمعي و بصري .. فأنني هذه المرة سأتدخل و أوقف الأمر و لو اقتضاني ذلك أن أرتكب جريمة .. فما أبشع أن ترى جريمة ترتكب أمامك .. مرة ثانية !
..........................
بالفعل ؛ و كما أعرف مما رأيته بعيني سابقاً ؛ جلست الفتاة و جلس الولد المفعوص أمامها .. و لم تمض لحظة حتى تشابكت أيديهما و اقتربت رؤوسهما من بعضها و انهمكا في محادثة هامسة تلمح من خلالها دلائل و علامات الحب العميق الذي تكنه الفتاة لهذا الولد الذي يشبه الخضار المسلوق بدون ملح ..
و بعد دقيقة جاء الخادم نحوهما و سألهما عن طلباتهما .. و سمعت صوت الفتاة يهمس كالنسيم طالبة كوباً من عصير البرتقال ، بينما طلب الشاب بصوته الجهوري المزعج طبقاً من اللحم المشوي و مكرونة و سلطة طحينة و سلطة خضراء و أخيراً كوب من عصير المانجو الطبيعي .. كل ذلك طلبه في نفس واحد و كأنه كان يعمل وابور زلط من قبل !
المهم ذهب خادم الفندق لإحضار الطلبات .. و عاد الشابان لهمسهما الخفيض الملتهب .. و كنت في أثناء تبادلهما الهمس ألقي بأذني معهما محاولاً سماع ما يقولان .. ليس لشيء و لكن لأعرف متى تحين اللحظة الحاسمة التي يجب على عندها أن أبدأ التحرك لحماية الفتاة من الخطر الذي يحيق بها و التي هي غافلة تماماً عنه .. و لئلا يتهمني أحدكم بالجنون فسأسرد عليكم الآن تفاصيل ما سيحدث .. التفاصيل الدقيقة ، أدق التفاصيل .. لتعرفا أنني رأيت هذا الموقف من قبل بكل تفاصيله .. بعد دقائق ؛ دقيقتين بالتحديد ؛ سيعود النادل حاملاً الطلبات التي طلبتها الفتاة و الشاب رفيقها ، ثم سيضعها أمامهما على المنضدة و ينصرف لحاله ؛ بعدها سيقبل الشاب على طعامه و كأنه غول جائع .. و يظل يأكل و يأكل بشكل مقزز بينما ترمقه الفتاة بنظراتها المندهشة المشمئزة طويلاً .. و أخيراً يصل إلى كوب المانجو ، فيتناوله بيدين غليظتين ؛ و يأخذ في ارتشافه بصوت يلفت انتباه كل الموجودين في قاعة المطعم فيحدجون الفتى و رفيقته بنظرتهم الساخرة المقتحمة .. و هنا تخجل الفتاة و تهمس لرفيقها طالبة منه الالتزام بأصول الإتيكيت أثناء شربه للعصير .. فتثور ثائرة الشاب ؛ الذي قدت أعصابه من نار ؛ و يدخل معها في مناقشة حامية ؛ بل خناقة حامية ؛ يتهمها خلالها بأنها تتعالى عليه .. و كلمة من هنا و كلمة من هناك ( و ملعون أبوكي و أبو الإتيكيت يا بنت الشحاتين ) .. و قبل أن يتمكن أحد من التدخل يكون الفتى الثائر قد ألتقط سكين المائدة الفضية الموجودة أمامه و أغمدها في رقبة الفتاة .. قبل أن يستطيع أحد التدخل لإيقافه !!
هذا هو ؛ بالضبط ؛ ما سيحدث الآن .. الفارق الوحيد هو أنني موجود هنا الآن .. و لن أنتظر حتى تحدث المذبحة و سأتدخل في الوقت المناسب و لن أمكن هذا الولد المائع السفيه من ذبح هذا الملاك الرقيق الذي يرافقه ..
ربما أكون مجنوناً في نظركم .. و ربما أكون كذلك في نظر نفسي أيضاً .. ربما كان هذا خبل ؛ خيال مريض ؛ جنون .. ربما يكون أي شيء .. و لكن ما سيكون رأيكم إذا تسنى لكم أن تروا الشاب الآن و قد أقبل على طعامه ؛ الذي أحضره إليه النادل لتوه ؛ كالغول و بدأ يأكل بأسلوب مقزز .. و الفتاة قد بدأت ترمقه بنظراتها المندهشة المشمئزة بالفعل !
..........................
أخذ الدم يغلي في عروقي كلما أوشك الفتى على إنهاء الطعام .. فقد كان معنى هذا أن اللحظة الحاسمة قد دنت .. دنت جداً .. و عندما قبضت أصابعه على كوب العصير بدأ قلبي يدق دقات سريعة متلاحقة .. و صعد الدم إلى رأسي .. أما عندما فتحت الفتاة فمها معترضة على أسلوب رفيقها المقزز في رشف العصير أخذ صوت الدم و النبض يقرعان في أذني .. و بالفعل :
- " أنت متقدرش تشرب من غير صوت ؟! "
- " من غير صوت أزاي يعني .. أشرب بالهزاز ؟! "
- " لا .. بس على الأقل متعملش صوت .. الناس كلها بتبص علينا "
- " خلي اللي يبص يبص .. هو إحنا تلامذة في مدرسة لا مؤاخذة .. دا أحنا قاعدين بفلوسنا يا ماما ! "
و احتدمت المعركة .. و تطايرت الكلمات الغاضبة من الجانبين .. و مال الفتى نحو الفتاة و همس لها بشيء ما بغيظ ، ثم تراجع في مقعده .. و هنا لمحت أصابع الفتى تتسلل نحو طبق اللحم المشوي الفارغ الذي كانت السكين فوقه .. و هنا هببت من فوق مقعدي كالإعصار ؛ فلم يعد هناك وقت ؛ نهضت بسرعة و اتجهت نحو منضدة الشابين .. و دون كلام قبضت على يده الممدودة أمامه و لويتها في غل .. صرخت الفتاة بينما أندهش الفتى للحظة .. و لكنه نهض من مكانه بسرعة و خلص يده من قبضتي ، ثم كال لي لكمة قوية هشمت أنفي ، فتدفق منها الدم .. و هنا وصلت لقمة غضبي فأنهلت عليه بلكمات عديدة متوالية سريعة ، أفقدته توازنه و أسقطته فوق المنضدة .. صرخت الفتاة و نهضت بسرعة مبتعدة عن المنضدة .. بينما أخذت أنا أكيل اللكمات لذلك السفاح الحقير .. و بعد أن أثخنته بالكلمات المتعاقبة لويت ذراعه خلف ظهره لأقيده و أمنعه من إلحاق الأذى بي أو بالفتاة .. جاء أمن الفندق و حاولوا فض الاشتباك .. و لكن الفتى مد يده الأخرى الطليقة و ألتقط السكين و حاول أن يغمدها في أي مكان من جسدي .. و لكني رأيته ؛ لحسن الحظ ؛ في الوقت المناسب و تفاديتها ببراعة .. و أمسكت ذراعه الأخرى و لويتها أيضاً خلف ظهره بقسوة .. و هنا سمعت ؛ بل سمعنا جميعاً ؛ صرخة ألم هائلة صادرة من حنجرة الفتى القوية .. كانت السكين قد اخترقت ظهر الفتى من الخلف .. تركته فسقط على الأرض و هو يصرخ ألماً و يتلوى بجنون .. أحاط بي رجال أمن الفندق و أمسكوني و قيدوا يدي خلف ظهري .. أما الفتاة فقد انحنت على الفتى الراقد على الأرض و أخذت تصرخ بجنون طالبة الإسعاف .. من جانبي لم أكن أشعر بأي خوف .. فأنا لست مجرماً .. بل على العكس فقد أرسلني القدر ؛ مرة ثانية ؛ لأمنع جريمة بشعة و أنقذ ضحية بريئة !
..........................
أستمر التحقيق معي طوال الليل .. حضر أبي و خالي " رأفت " و أخي " فريد " و كذلك صديقي " ممدوح " .. كانوا جميعاً في دهشة من هذا الأمر ، و لم يستطع أحدهم أن يقدم تفسيراً لاعتدائي على شاب لا أعرفه حتى الموت !
لم يقتنع المحقق بمبرراتي و أعتبرها هراء أو نوع من ادعاء الجنون و سألني مراراً عما إذا كنت أعرف الفتاة أو تربطني بها أي علاقة .. نفيت ذلك بشدة ، و كذلك نفت الفتاة ، و كنا على حق .. فبالفعل إننا لا نعرف بعضنا إطلاقاً ، و رغم أنني حاولت تذكيرها بلقاؤنا السابق في نفس هذا المكان و في نفس تلك الظروف ، إلا إنها نفت تماماً أن تكون قد رأتني من قبل في حياتها و اتهمتني بالجنون .. الأصعب على أنها ألقت بقنبلة زلزلت كياني .. فلم يكن الفتى رفيقها بل كان زوجها و والد أبنها ذو الأربعة أعوام !
في اليوم التالي قررت وكيل النيابة عرضي على طبيب مختص للكشف علي و تحديد مدى سلامة قواي العقلية !
..........................
تم اقتيادي إلى السجن لأقضي فترة حبسي على ذمة القضية .. لم أندهش لشيء مما رأيته في السجن .. فبداية من البوابة الرمادية الضخمة ، و أوجه الحرس المخيفة التي لوحتها الشمس ، و عنابر السجن الضخمة الكئيبة الموحشة المظلمة ، و حتى وجوه المساجين الغبية البليدة .. كلها .. كلها كانت مألوفة لي بشكل ما .. و كنت واثقاً ؛ قبل مرور نصف ساعة على بقائي في هذا المكان الرهيب ؛ إن هذا المكان ليس غريباً علي .. فلقد رأيته ، رأيته و عشت فيه و مررت بكل تفاصيله من قبل .. متى ؟!
في عالم آخر .. في زمن آخر .. في حياة أخرى ؟!
ربما .. و لكن المؤكد أنه لا شيء مما أراه الآن جديد أو غريب .. بل كله مألوف .. مألوف بشكل مثير للضجر !
..........................
بدأت جلسات محاكمتي المملة .. كانت التهمة الموجهة لي بناءً على تكييف النيابة هي القتل العمد .. بينما أنحصر هم المحامي الشهير الذي وكلته لي أسرتي في تغيير الوصف القانوني لقضيتي من قتل عمد إلى قتل خطأ .. لأن ذلك قد يترتب عليه تحويل العقوبة المقررة من إعدام أو أشغال شاقة مؤبدة إلى سجن تتراوح مدته بين خمسة أو سبعة أعوام !
كنت كل بضعة أيام .. أمضي وسط حراسة إلى المحكمة لأحضر جلسة طويلة مرهقة مملة .. مملة لأنها مألوفة .. مألوفة على نحو يغيظ و يثير الغليان في دمي !
هل من المعقول أن أكون قد عشت كل هذه لأحداث من قبل .. لا مستحيل !
وإذن لماذا يبدو لي و كأنني عشتها .. و كأنني مررت بها من قبل .. حتى أبسط التفاصيل و أغربها و أبعدها عن مجال حياتي اليومية ؛ بشكل يجعل من المستحيل أن أكون على علم بها ؛ هي أيضاً كانت تبدو لي مألوفة !
و الآن أنا أقبع في زنزانتي منتظراً حكم المحكمة الفاصل غداً .. و لا أريد أن أقول لكم أنني أخشى إذا ما نطق القاضي بالحكم أن يكون مألوفاً هو الآخر !
تأليف : منال عبد الحميد
ملاحظة
تتناول هذه القصة إحدى خفايا العقل البشري وتسمى ديجافو DEJA VU والتي تعني باللغة الفرنسية "لقد رأيته من قبل " أة "قد حدث من قبل" ، لمزيد من التفاصيل إقرأ هنا.
إقرأ أيضاً ...
- الديجافو Deja Vu
- تحقيقات : حادثة طريق إربد - عجلون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق