تعمل (كيت شيرمان) لدى عائلة السيد والسيدة (فهمي) جليسة أطفال منذ ثلاث سنوات، لذلك يمكن القول أن (تامر) إبن الزوجين (فهمي) يعتبر (كيت) أختا كبرى له. كانت الساعة السابعة في إحدى أمسيات شهر فبراير الباردة في (نيويورك)، وقد غادر الزوجان منذ السابعة وتركا طفلهما في رعاية (كيت) بعد أن أعطياها كالعادة لائحة طويلة من التعليمات، فرغم أن السيد (فهمي) سخي جداً، إلا أن زوجته صارمة حازمة على نحو يذكر (كيت) بأستاذة التاريخ، السيدة (بيرينز) المتدينة، التي تمقت كل بنات الفصل، وتعتبر كل واحدة منهن مشروع خطيئة.
لم تأبه (كيت) كثيرا لتعليمات الأم التي لم تفتأ تمليها على مسامعها كل مرة - على نحو يجعلها تحس بنوع من العقاب- وهي تسمع نفس النصائح والأوامر واللاءات. ربما لأنها تعودت على أن تعقد إتفاقا سريّا مع (تامر). لكن (تامر) هذه المرة مريض، أوصت السيدة (فهمي) بترك الفتى ينام بهدوء لأنه محموم. وقد تفهمت (كيت) الأمر خاصة وقد أسر إليها الزوجان بأنهما ذاهبان إلى صديق للعائلة تمكن من العثور لهما على دمية نادرة للبطل الخارق الذي يشاهد (تامر) مسلسله، تلك الدمى التي تصدر في مناسبات حصرية وبعدد محدود.
(تامر) لم يتمنّ منذ مدة سوى الحصول على الدمية، فكيف لا يهديانها له بمناسبة إتمامه السنة السابعة غدا؟ لكم تحسد (كيت) الفتى على والديه؟ غدا عيد ميلاد الشقي إذن؟ يجب عليها أن تفكر بدورها في هديّة مناسبة. صعدت، فور مغادرة السيد والسيدة (فهمي)، إلى فوق على أطراف أناملها تلقي نظرة على الفتى النائم وقبل أن تقفل الباب بحذر وتهبط درجات السلم نحو الصالة. شغلت جهاز التلفاز واختارت القناة المفضلة لديها منتبهة إلى خفض الصوت ما أمكن. لكن الملل سرعان ما تسلل إلى نفسها، لم تكد تمر ساعة حتى شرعت تتململ في مكانها، كانت قد تعوّدت على قضاء الوقت في ألعاب مسلية مع (تامر)، رغم أن الفتى ليس من سنّها ولو علمت صديقاتها لسخرن منها شامتات. أطفئت جهاز التلفاز، وبحثت في رف مكتبة عن كتاب جديد تقرأه. لكنها لم تعثر سوى على روايات سبق وتصفحتها، وأخرى باللغة العربية لم تفقه فيها حرفاً. فكّرت بزيارة البيت غرفة غرفة، ثم عدلت عن ذلك فهي تحفظ البيت عن ظهر قلب. أكثر من خمسين ليلة في هذا المكان وتستطيع رسم خريطة تفصيلية لو شاءت. كانت الثلاجة كما تعودت مليئة بالأكل والمشروبات، لكنها لم تشعر برغبة حقيقية، واكتفت بتناول مثلجات. وهي تعود إلى الصالة، وتنظر بشرود إلى الجو بالخارج، عبر نافذة المنزل التي يتسلل منها ضوء القمر يخبرها بأن تستعد فالليلة ستكون طويلة.
تنهدّت وهي تحاول التفكير في شيء يسلّيها، واهتدت إلى تخيل زملائها بالفصل، لاعبي فريق الفوتبول الأشداء، عراة كما ولدتهم أمهاتهم. ويبدو أنها تاهت في تخيلاتها الشبقيّة، لأنها وثبت وجلة عندما رن جرس الهاتف. تجمدت لحظة في مكانها، قبل أن تنتابها نوبة ضحك، لكنها توقفت عن القهقهة والرنين يتكرر غير مبال. فمدت يدها وأخرسته قائلة
- " ألو .. "
ظنت بادئ الأمر أنها السيدة (فهمي) تتصل لتطمئن كعادتها، لكنها أمام الصمت المطبق في الطرف الآخر اكتشفت غير ذلك. كررت :
- "ألو .."
لكنها لم تسمع سوى صدى صوتها. ما هذا السخف ؟ قالت لنفسها قبل أن تكرر لثالث مرة :
-" ألو .. من يتصل؟ .. أجب أيها الوقح" .
وانقطع الخط. أبعدت السماعة عن أذنها فجأة بحركة لا إرادية، وتجمدت عيناها لحظة. قبل أن ترتدي قناع الغضب. أحدهم أقفل الخط في وجهها، أول مرة تشعر بذلك. من يكون إذن ؟ تساءلت بعد لحظات وهي تحضر علبة مثلجات ثانية تطفئ بها غضبها، لو كان متصلاً بالخطأ لاعتذر على الأقل. حاولت تجاهل الأمر وعادت تشغل جهاز التلفاز واختارت قناة كوميدية، لكن المواقف التافهة لم تخطف منها شبح ابتسامة واحدة. ثم رن الهاتف من جديد:
- " ألو .. "
كان هناك صوت هذه المرة، شيء كالحشرجة غير الواضحة، وأنين مريب أجفل (كيت) بحق، حتى أنها هي من قطعت الخط هذه المرة. أيكون صديقها (ماك) الذي يحب مشاكستها ؟ لكنها لم تعطه رقم البيت. توقف تفكيرها بعد لحظات في منطقة مظلمة. إنها في الولايات المتحدة الإمريكية، وفي (نيويورك)، موطن مصاصي الدماء والمستذئبين والقتلة المتسلسلين وأكلة لحوم البشر. هناك "أساطير حضرية " كثيرة صيغت حول جليسات الأطفال، استغلتها السينما في هوليوود كما يجب. تعلم هذا وله ترتجف. تذكر أنها شاهدت الفيلم رفقة (ماك)، في أمسية من الأمسيات. لم تتبع القصة تماما لأنها كانت منشغلة بأمور أخرى مع فتاها في الصفوف الخلفية !! ماذا عليها فعله الآن ؟ اتصلت بـ(ماك) لتتأكد من أنه ليس صاحب المقلب، لكن هاتفه لم يكن يردّ. عاودت الكرة دون جدوى. كانت في طريقها لتركيب الرقم ثالث المرات حين رن الهاتف مرة أخرى فانتفضت برعب، وردت ببطء:
- " ألو .. (ماك) ؟؟ "
فجاءها الرد:
- " سأقتلك إن لم تغادري البيت بسرعة"
الآن كان الصوت الخشن آمراً، فرمت السماعة من يدها كما لو كانت جمرا ملتهبا، وأطلقت صرخة، لم تتوقف حتى سمعت الأزيز المتصل الذي يشير لإنقطاع الخط. " بحق الرب من يكون صاحب الصوت؟"
كان صوتا فظيعا جلجل في أذنيها وبث فيها رعبا لم تشعر به في حياتها. هو قاتل مريض إذن، وهي في ورطة. أسرعت للهاتف تلتقط السماعة الملقاة أرضا وتركب رقم النجدة، لن تخرج من البيت حتى تحضر الشرطة. لن تفعل ولو كانت مجرد لعبة يسخر بها أحدهم من جبنها. هدّأت الشرطية بالطرف الآخر من روعها. واستمعت لقصتها بصبر وهدوء لم تنجح (كيت) في فهمه، قبل أن ترد :
- " أنت متأكدة من أنك لم تعط رقم البيت لصديق لك، أو صديقة ما تحاول أن تستظرف معك؟ "
- "لا أؤكد لك .. أنا في خطر أرجوك .. إنه يهددني بالقتل إن لم أخرج حالا من البيت "
- "حسناً اهدئي .. لن تخرجي من البيت .. اتفقنا ؟ .. هل اتصلت بمشغليك ؟ "
تذكرت (كيت) أن تلك النقطة فاتتها فقالت بتردد :
- " لا .. في الحقيقة كنت خائفة و لم أفكر سوى في الإتصال بالشرطة "
- "حسن فعلت .. اسمعي يا (كيت) .. لو اتصل ذلك الشخص مرة ثانية .. حاولي تعطيله في الكلام قدر الإمكان حتى نتعقب الإتصال .. فهمت ؟"
- " نعم .. "
قالت (كيت) وقد هدأ روعها قليلا
- " أعطني رقم هاتف مشغلك، ولا تقلقي .. فقط نفّذي ما اتفقنا عليه"
أعطتها الرقم وعادت تجلس بعد الإتصال وقد بدأ التوتر يجعل جسدها يرتجف، كانت أعصابها مشدودة كالزنبرك. فكرت في (تامر) الذي ينام في الأعلى غير واع بما يحصل، كم تحسده ؟! فجأة انتابها شعور بالخوف على (تامر)، وتذكرت أنها من شدة رعبها مما يحصل، لم تصعد لتطمئن عليه. ولم تكد تقرر النهوض لتفعل، حتى رن الهاتف من جديد، كم تمقت الصوت المستفزّ اللامبالي؟ التقطت نفسا عميقا، واستحضرت كلام الشرطية بأن عليها استدراج المتصل دقيقة على الأقل حتى يتمكنوا من تحديد مكانه والتأكد من خطورة الأمر حقاً .
- " ألو .. من المتصل؟"
- ... (حشرجة صت كأنه صادر عن اسطوانة مشروخة) " لقد قلت لك اخرجي حالا من البيت أو أقتلك"
- (مرتبكة وخائفة) .. " لماذا ستقتلني؟ .. ماذا فعلت لك ؟ .. من أنت ؟"
في الواقع، لم تدر (كيت) كل الكلام الذي قالته، لقد قالت كل شيء تقريباً. كانت يدها ترتجف وجسمها كاملا وهي تحدث قاتلها المفترض. داعية الرب أن تنتهي هذه الليلة المشؤومة بأقل الخسائر الممكنة وأن تحضر الشرطة في ثوان لتقبض على الرجل، وتحول جسده إلى مصفاة بالرصاصات. ولقد نجحت في إبقاءه على الخط دقيقة كاملة. لم تكد تفعل، حتى أقفلت الخط بنفسها، وقلبها يدق كسرينة المطافئ ليلة الحادي عشر من سبتمبر. وكاد يتوقف حين اهتز الهاتف البغيض مرة أخرى، لابد أنها الشرطية التي كانت معها على الخط منذ قليل، قالت (كيت) في نفسها ملتقطة السمّاعة:
- "هل أنت متأكدة من أن لا أحد معك بالبيت؟" سألت الشرطية بهدوءها القميء.
- "أنا والطفل الذي أقوم برعايته وحسب .. هل .. تتبعتم الإتصال؟"
قالت الشرطية بقلق :
- "الإتصال من الخط الثاني بالمنزل "
بهتت (كيت) لحظات، لوهلة بدا أنها لم تفهم كلام الشرطية، قبل أن يشرق شيء في ذهنها، وتقول ضاحكة :
- " لقد فهمت الآن .. (تامر) .. الشقي .. هه .. لقد نال مني الوغد ادعى أنه مريض ونائم لكي أسقط كالمغفلة في مقلبه".
- " تأكدي من ذلك إذن .. سنتصل بمشغلك لنبلغه بالأمر .. ونرسل شرطيا لمزيد من الحذر.. غادري المكان فورا لو شعرت بالخطر".
- " حسناً .. " ، قالت (كيت)
وهي تقفل الخط عقلها بدأ بالفعل يصور لها انتقامها من الطفل الشقي، انتقامها الشنيع. كشرت عن أنيابها وهي تضع سمّاعة الهاتف، ترسم وجها غاضبا متوحشا وتصعد الدرجات نحو غرفة الفتى، متوعدة بالويل والثبور، وعظائم الأمور. وهي تصعد السلم تساءلت في عقلها كيف وقعت في الفخ بتلك السهولة؟ أكان والدا الفتى مشتركين معه باللعبة ؟ لأنهما أخبراه بأن الصبي مريض. ثم كيف نجح في تقليد ذلك الصوت الفظيع ؟
- " تامر ..تامر .. اخرج لترى !!"
دخلت غرفته وهي تفتح الباب ببطء، كان السكون قد غلف المكان بغتة، وشعرت بأن الشقي سيختبئ خلف الباب محاولا إخافتها. محاولة أخيرة. وهي لن تسمح له بإتمام انتصاره عليها، ولا بد أن تنتقم. دخلت الغرفة بحذر وهي لا تنفك تنادي الفتى. بحركة خاطفة، نظرت خلف الباب مطلقة صرخة، لكن لا أحدا كان هناك. شعرت بالغيظ والغضب، لن ينجو الصبيّ بفعلته، حتما لن يفعل. ضغطت زر الإنارة، لكنه لم يعمل. لا، لقد تجاوز (تامر) الحد، فكرت وهي ترسم على وجهها أقصى تعابير الغضب الممكنة، الصبي لم يكن على الفراش أيضاً.
- " اخرج حالا من مخبأك يا تامر لقد كشفت لعبتك "
كان شباك النافذة نصف مفتوح، وإزاء الصمت المطبق، تسلل شك مفاجئ لنفسها الفتية. "ماذا لو كان هناك شخص ما حقاً ؟ و تامر ؟ أين هو ؟؟"
فجأة تحرك شيء ما في فضاء الغرفة الذي أخذ يتسلل إليه ضوء القمر من النافذة التي فتحتها نسائم الليل في تلك اللحظة مع صوت صرير خافت، لكنه بدا في ذلك الموقف وبالنسبة لـ(كيت)، نذير سوء. ووقف جسد ضئيل تحت النافذة تماما. قالت (كيت) وقد فقدت أعصابها حقا، على حافة انهيار وشيك :
- " توقف يا (تامر) وإلا أخبرت والديك"
لكن تامر تقدم أمامها ببطء وهو يطلق ضحكات، صوته غريب بالفعل، أو أنه يتقن تقليد أصوات الأسطوانات المشروخة. بدا وجهه يتضح تحت ضوء القمر الذي غمر الغرفة، كما لو طلّق أخيرا غيمة شريرة حجبته طويلا. كان الصبي يضحك فعلا ضحكات طفولية، لا يدرك سرها سوى من هم في سنه. لاحظت مبهوتة أن أظافره طويلة حادة، ويكشف عن فم حيوانيّ بفك متوحش تتزاحم فيه أسنان منشارية حمراء، كفك قرش مصغّر. وقبل أن تفهم شيئا، إنقض الصبي على (كيت) كقذيفة منجنيق، تعلق برقبة الفتاة يغرس مخالبه في لحمها. ويهوي على جمجمتها بضربات هيستيرية من فكه المنشاري. وبين كل ضربة وضربة أخذ يضحك، يضحك، يضحك. صرخت (كيت) من الألم، محاولة إبعاد الوحش الصغير عنها. لكنه كان ملتحما بها، مخالبه عميقة في عنقها، والدم يسيل غزيراً في ظهرها. شعرت بلسان هائل يخرج من الفم الحيواني، لسان لزج ساخن، رأته بطرف عينها الملتاعة. يخرج من فم الصبي كأخطبوط هائل يقترب من انفها بإصرار، قبل أن ينغرس فجأة في فمها يكتم صرخاتها. وشعرت بالغثيان والشيء الكريه الحيّ، الذي كان أكثر من لسان، يلتهمها من الداخل كأفعى (موراي) ضخمة. كان تسقط أرضا في تلك اللحظة، بعد مقاومة فاشلة. وعيها بدأ يتسرب منها مغادرا بلا رجعة. حين رأت الزوجين (فهمي) يدخلان كقردين متوحشين من النافذة المفتوحة. كان تعبير وجه السيد فهمي مخيفا وهو يقول :
- "للأسف يا صغيرتي، كنت أنت هدية ابننا تامر فالفتى يكمل الليلة تحوله ليصبح واحدا منّا، لقد اتصلت بي الشرطية وأخبرتني بكل شيء. يبدو أن تامر أراد إنذارك، وهو يقاوم بدون جدوى تحوله الحتميّ. وداعا يا صغيرتي".
تأليف عبد العزيز أبو الميراث
نبذة عن المؤلف
للمؤلف العديد من المجموعات القصصية التي تدور في فلك الرعب والغموض، وله مشاركات في مشروع جماعي لكتابة قصص الرعب يحمل عنوان "اعذريني ومخاوف أخرى" ، وسيصدر له قريباً قصة جديدة من ضمن مجموعة قصصية أخرى بعنوان "صانع الذهب" ،والقصة المنشورة (جليسة أطفال) تأتي ضمن مجموعة قصصية بعنوان (فتاة قوطية) .
إقرأ أيضاً ...
- أعمال فنية : المستئذب - أعمال فنية : ليلة رعب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق