الجمعة، 15 أغسطس 2014

الرفيق

لم يتركني هذا الرفيق لحظة واحدة طوال عمري !

صبي في مثل سني .. وسيم أنيق صغير الحجم ، سريع البديهة حاد الذكاء .. يتحدث عدة لغات بطلاقة و يغني أغاني غريبة لا أعرف من أين تعلمها .. لم يكن يدرس في المدرسة كما أخبرني ، فغالباً لا توجد في عالمه مدارس كما أفهمني .. و لكن توجد وسائل أخرى للتعليم و هي أفضل من وسائلنا و أكثر جدوى و الأهم أنها أسهل و أيسر و أسرع و أنجع .. فيكفي أن يردد الإنسان كلمة ما عدد معين من المرات ليلم بكل المعلومات و الموضوعات المتعلقة بهذه الكلمة مهما كثرت !

ورغم كل مميزات رفيقي هذا فإنه كانت توجد مشكلتين تنغصان علينا صداقتنا و رفقتنا الطيبة .. أولهما أننا لم نكن نلتقي إلا في الحمام .. فقد كان مصر على عدم الظهور إلا في الحمام .. و هذا بالنسبة لي كان حرية شخصية !

المشكلة الثانية كانت إصرار أمي و أبي على أن رفيقي هذا من عالم خيالي .. و أنه لا وجود له إلا في أوهامي .. و لكن أبواي كانا غير مقنعين في هذه المزاعم .. فرفيقي هذا كان له وجود مادي كامل .. جسم و طول و ارتفاع و سمك وحجم محدد وملامح ثابتة وظل ويشغل حيزاً من الفراغ .. فكيف يكون مجرد وهم .. لابد أن أبواي هما اللذين يتوهمان و لست أنا !

..............................

كبرنا معاً خطوة بخطوة و درجة بعد درجة .. و عندما وصلت إلى الصف السادس الابتدائي زاد طولي فجأة و أصبحت طويلاً نحيفاً قوي البنية .. و كذلك حدث هذا الأمر معه !

حتى الآن ؛ و رغم مرور خمسة أعوام على بداية تعارفنا و لقاءنا الأول المثير ؛ و هو لقاء سأروي لك الكثير عنه بعد قليل ؛ لم أكن قد فطنت إلى أن رفيقي الغامض هذا يشبهني كثيراً .. فلم أكن أعبأ كثيراً بتفحص ملامحه بقدر ما كنت أحب الإنصات إلى حديثه المشوق المليء بالمعلومات الغريبة و المعارف العجيبة التي لا أعرف من أين و لا كيف حصلها .. حتى أصواتنا لم أدرك أنها متقاربة و متشابهة .. و لعل ذلك يرجع إلى حقيقة يجهلها كثير من الناس و هي أن الإنسان ؛ غالباً ؛ لا يسمع نبرة صوته الحقيقي بأذنيه لذلك فهو إذا ما سمع صوتاً مشابهاً لصوته لا يدرك هذه الحقيقة و لكن يدركها الآخرون ..

وهكذا مضينا نتحدث معاً كل ليلة و نلعب و نغني و ندرس و نحلم معاً .. لا يعكر صفونا شيء سوى موقف والداي الغريب منه .. حتى قرر والداي عرضي على هذا الطبيب المقيت .. و لكنني كنت قد وعدتك بأن أحكي لك عن لقاءي الأول معه .. فأسمع يا سيدي وأنصت لعلك تستفيد !

..............................

كان عمري وقتها ست سنوات.. و رغم صغر سني حين مررت بهذه التجربة الفريدة إلا أنني ما زلت أذكرها ثانية بثانية و كأنها وقعت بالأمس فحسب .. ففي ليلة حارة من شهر يوليو أصابتني حمى غريبة و غلا جوفي بحرارة بالغة جعلتني مثل الأرنب المشوي .. و حضر الطبيب و كتب لي نحو سبعة أنواع من الأدوية كانت كلها ؛ و لله الحمد ؛ كريهة المنظر و مقززة الطعم .. المهم بقيت أمي بجواري طيلة الليل تعمل لي كمادات باردة و تعطيني الدواء مرة بعد مرة ، بينما كنت أنا راقداً في فراشي أتصبب عرقاً و قد انفتحت مثانتي كالبالون المثقوب ، فأخذت أتردد على الحمام كل دقيقتين .. و ظللت هكذا طيلة الليل حتى أصابني إرهاق أشد من الحمى ذاتها .. و قبل الفجر بساعتين استيقظت من نومي على منام غريب لا أعرف ما إذا كان حلماً أم كابوساً و كنت أتصبب عرقاً بغزارة و أشعر أن مثانتي موشكة على الانفجار ، بينما كانت أمي مستغرقة في نوم عميق على مقعد بجوار فراشي و قد هدها التعب و السهر فراحت في النوم و لم تعد تشعر بشيء حولها .. نهضت من فراشي بحذر محاولاً عدم إقلاق أمي المسكينة .. مشيت على أطراف أصابعي و خرجت من غرفتي فوجدت نور الصالة مطفأ ، و هذه لم تكن من عادة أمي التي كانت تترك لنا ؛ أنا و أخوتي ؛ نور الصالة مضاء طوال الليل حتى لا يخف أحدنا إذا ما أراد الذهاب ليلاً إلى الحمام .. المهم أنني دخلت إلى الحمام و أضأت النور .. و جلست إلى المرحاض .. و قبل أن أقضي حاجتي فوجئت بالنور ينطفأ من تلقاء نفسه .. ففزعت و نهضت من مكاني و ذهبت إلى زر النور و ضغطت عليه مرة و اثنتين و ثلاثة حتى أضاء أخيراً .. عدت للجلوس فوق المرحاض و بعد ربع ثانية أنطفأ النور مرة أخرى .. هنا فزعت حقاً و كدت أصرخ طلباً للنجدة و بلغ بي الفزع حداً جعلني أبول على الأرض و أنا واقف .. و لكنني لاحظت نوراً غامضاً ينعكس على المرآة رغم أن الحمام مظلم بالكامل .. اقتربت من المرآة بحذر لأعرف مصدر هذا الضوء المنعكس عليها .. لم يكن الضوء موزعاً عشوائياً فوق المرآة بل كان مرتسماً على شكل هالة ؛ أو بيضة ؛ وسط المرآة .. تطلعت ملياً لهالة الضوء هذه ، كنت مأخوذاً أكثر مني خائفاً أو مرعوباً .. أخذت أتطلع إلى المرآة فترة طويلة دون أن يحدث شيء حتى هممت بالانصراف عنها .. و لكن فجأة لمحت ظلاً خافتاً يتحرك داخل هالة الضوء هذه .. ارتعبت و نظرت خلفي لأني تخيلت أن هناك من يقف ورائي .. فلما نظرت خلفي تأكدت من عدم وجود أحد آخر سواي في الحمام .. اطمأننت قليلاً و عدت للتحديق في المرآة و هنا وجدت صورتي منعكسة في المرآة وسط هالة الضوء بالضبط .. تعجبت لأن موقعي بالنسبة لها لا يسمح بأن تتكون صورتي في وسطها تماماً .. شدني هذا الأمر الغريب فمددت يدي إلى ظلي المنعكس و لكن يدي بقيت ممدودة خمس دقائق كاملة دون أن يقدم ظلي على فعل المثل !

شعرت بشيء غريب يسحرني و يجذبني فاقتربت أكثر و أكثر من المرآة حتى ألصقت وجهي بها .. فتضخمت ملامحي و تورمت بشكل مثير للضحك .. و هنا وجدت نفسي أضحك .. أضحك و أضحك دون سبب واضح .. و لكن ظلي اللعين بقي صامتاً عابساً .. و ظللت أضحك حتى سرت إليه عدوى الضحك فأبتسم لي ابتسامة خفيفة .. مددت له يدي ففعل المثل حتى تلامست أيدينا في وسط المرآة و في قلب هالة الضوء الغامضة .. بعد ثانية كان هناك صبي صغير في مثل سني و حجمي يقف أمام المرآة مبتسماً لي بثقة و براءة ..

قال لي بصوته الجميل الذي يشبه تغريد العصافير تحت نافذتي :

- " كيف حالك ؟! "

فقلت له بثقة و قد تبخر خوفي و أحسست بشعور عجيب :

- " أنا بخير الآن .. شكراً لك ! "

..............................

في الصباح التالي كنت سليماً معافى كالثور .. بل كان يمكنني أن أركل الثور نفسه لو أن أحداً طلب مني ذلك .. تعجبت والداتي و سعدت بذلك و أخذت تثني على براعة الطبيب و شطارته و مهارته و قالت لأبي و هي تمسد على شعري الأسود الناعم :

- " لقد شفي الولد على يديه في ليلة واحدة .. لن نلجأ لطبيب سواه مرة أخرى و سوف يكون طبيب أسرتنا الدائم ! "

غير أن ما لا تعلمه أمي أن الذي شفاني ليس براعة طبيبها الأحمق ؛ الذي كاد يقتلني بأنواع غير مناسبة من الأدوية كما قال لي صديقي الجديد ؛ و لا يحزنون .. بل هي بركات صديقي الجديد و قدراته الخارقة ، فقد جعلني أقع على ساقي في الحمام وأعطاني نقطة من سائل أسود غليظ بدون طعم .. و بعد أن شربتها مباشرة تبولت كمية ضخمة من سائل أخضر زلالي مقزز و بعدها شعرت براحة عميقة لم أشعر بها منذ أن غادرت رحم أمي .. عندها قال لي صديقي بوجهه الطيب الباسم :

- " لن تصبك أي أمراض أبداً بعد الآن ! لقد استللت استعداد جسدك للإصابة بالأمراض إلى الأبد ! "

و فعلاً .. فحتى وصلت إلى المدرسة الثانوية لم أصب بأي من أنواع الأمراض المنتشرة ..لا صداع و لا أنفلونزا ولا لوز ولا التهابات و لا زائدة دودية ولا أي شيء !

..............................

لم يستطع الطبيب النفسي أن يفعل أي شيء حيال موضوع صديقي ( الخيالي ) هذا !

حاول كثيراً ؛ و عبر جلسات علاج نفسي طويلة مرهقة ؛ أن يفهمني أن صديقي هذا مجرد وهم اخترعته من خيالي لأستحوذ على اهتمام والداي خاصة بعد وصول شقيقي التوأم الصغيرين ؛ اللذين استحوذا على اهتمام أمي و وقتها ؛ و لأكتسب أهمية خاصة في الأسرة .. و أخذ يحدثني عن عقلي الباطن و عقلي الواعي و الرغبات المكبوتة المكتومة في اللاشعور .. و كل هذا الهراء الذي يردده تلاميذ ( فرويد ) النجباء كلما واجههم ما يجهلونه من أسرار الكون و الطبيعة البشرية التي لا يريدون أن يعترفوا بتميزها و تفردها عن سائر مخلوقات الله .. و لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بجهلهم فيلقون به على المرضى المساكين الذين يخرجون من عيادتهم بدستة أمراض نفسية زائدة عما دخلوا به !

فالمشكلة الرئيسية لم تكن في أنا .. بل كانت في إصرار أبي و أمي و إخوتي و الطبيب على أن صديقي هذا غير موجود .. دون أن يحاولوا مناقشة الأمر جدياً أو البحث عن الحقيقة لكي يريحوا أنفسهم .. حتى واجهتهم الحقيقة التي يرفضون الاعتراف بها !!

..............................

حدث هذا عندما كنت في المرحلة الثانوية .. مرحلة الموت و الفشل أو التشبث بالحياة و النجاة كما حورتها وزارة تعليمنا الرشيدة .. و بالتحديد في الصف الثالث الثانوي .. كنت أدرس في القسم العلمي و كنت شديد الرغبة في الالتحاق بأحدى كليات القمة .. لا ليست الطب كما يتخيل كل الناس بل الهندسة بالتحديد .. و لأنني أحلم بدخول كلية الهندسة و لأنني أدرس في القسم علمي رياضة و لأنني أريد أن أصبح شيئاً مهماً في المجتمع و لأن الفيزياء مادة شديدة الأهمية في قسمنا فقد كانت ليلة امتحان الفيزياء بالنسبة لي ليلة قلق و توتر و خوف رهيب .. خفت من الامتحان لدرجة أنه انتابني إحساس كئيب بأنني لن أتمكن من اجتياز هذه المادة بالذات .. خفت لدرجة أن كل ما استذكرته من فصول المادة و علومها طوال العام تبخر من ذاكرتي تماماً و لم أعد قادراً على تذكر قانون واحد من قوانين الفيزياء التي ندرسها !

خفت لدرجة أنني قررت ألا أدخل الامتحان !

طبعاً كان هذا جنون .. جنون وقتي أصابني فوجدت نفسي ؛ دون وعي ؛ أضطرب و أعاف الطعام و أشعر بماء مثلج يملأ معدتي حتى تخيلت أنني غير قادر على النهوض من مكاني .. و أصابتني تشجنات شديدة و دخلت في حالة إعياء رهيبة ألقتني على فراشي كالتمثال الخالي من الحياة !

فزعت أمي و أسرع أبي بإحضار طبيب العائلة الكريه ليراني و يصف لي العلاج المناسب .. و كان الحال في غاية السوء .. فالامتحان لم يتبقى عليه سوى ساعات و ذاكرتي اللعينة قد تحجرت فلم أعد أذكر حتى أنني سمعت من قبل عن شيء أسمه ( قوانين الفيزياء ) .. و جاء الطبيب مهرولاً ؛ فقد كان والدي شديدي الكرم معه حتى أنهما كانا يجران كل المرضى من عائلتنا أو من معارفنا جراً إلى عيادته ؛و فحصني بدقة ثم أعلن أنني أعاني من ( رهاب ليلة الامتحان ) و بحاجة إلى تناول عقار مهدئ و النوم لبضع ساعات بعدها سأكون بخير بإذن الله .. و بالفعل فقد تناولت حبتين مهدئتين و شربت كوباً من العصير و وضعت كتاب الفيزياء في أبعد مكان عن ناظري .. ثم احتضنت وسادتي و غبت في نوم عميق .. و استيقظت في منتصف الليل بالضبط و قد نسيت تماماً أن عندي امتحان فيزياء في اليوم التالي !

استراحت والدتي لهدوئي المثير و أعدت لي عشاءً طيباً ومج نسكافيه يكفي لإصابة مصر كلها بالأرق .. تناولت العشاء ببطء و استمتاع و شربت النسكافيه متلذذاً و أنا مرتاح البال و آخر هدوء .. و بمجرد أن نهضت من مكاني حثتني والدتي على الذهاب لغرفتي للاستذكار ، فلم يتبقى على موعد الامتحان سوى ساعات محدودة .. و لكنني جلست أمام التليفزيون بهدوء وفتحته و أخذت أشاهد الكرتون و كأنني طفل في الرابعة من عمري .. و عندما كررت أمي مناشدتها لي بمحاولة الاستذكار وجدت نفسي أقول لها كلاماً لم أعده من قبل و لم أتصور حتى أنني سأقوله في يوم ما :

- " أمي أنا لن أذهب للامتحان .. لقد أخطأت بدخولي لهذا القسم .. إنه لا يناسبني .. سأستكمل دراستي في القسم الأدبي ! "

وبمجرد أن انتهيت من كلامي حتى قامت الدنيا و لم تقعد .. أثارت والدتي زوبعة هائلة في البيت و أخذت تلطم وتشد شعرها و صرخت منادية والدي و إخوتي ليشهدوا على خيبتي القوية وخيبة أملها في .. و جاء والدي فكررت له ما سبق أن قلته في هدوء .. كانت قد تلبستني حالة من البرود الكامل و ( التناحة ) المتناهية بحيث أنني لم آبه لصراخ والدتي ولا كلام والدي الجاف وتهديداته لي بطردي من البيت و لا بسخرية أخوتي منى .. المهم أنني ظللت واقفاً في مكاني حتى أنتهى الموشح التي اشتركت في غناءه العائلة بأكملها ثم دخلت إلى غرفتي لأنعم بنوم هادئ لذيذ لم أنعم به في حياتي من قبل !

ثم ما الذي حدث بعد ذلك .. لم أكن هناك ولم أرى أي شيء .. فقط أنا سأقص عليك ما رواه لي الآخرون الذين رأوني .. أو الذين ( شبه إليهم ) !

..............................

في الساعة الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي رأتني والدتي ؛ التي لم تحاول إيقاظي للذهاب إلى الامتحان كما أمرها أبي ؛ خارجاً من غرفتي بكامل ثيابي وقد حملت في يدي أدواتي التي أستخدمها في أداء الامتحان بالإضافة إلى كتب ومذكرات الفيزياء و قلت لها بابتسامة واثقة أنني ذاهب إلى الامتحان و لن أتأخر !

طبعاً خرت والدتي على الأرض شكراً لله الذي هداني على نفسي .. و هرعت إلى التليفون لتخبر والدي ؛ الذي كان في عمله ؛ بهذا الخبر السار و بالطبع فقد شاركها والدي سعادتها .. و قضت والدتي ساعات في انتظار عودتي .. و هناك في لجنة الامتحان في مدرسة ( أبو بكر الصديق الثانوية ) و في التاسعة إلا الربع دخل طلاب المرحلة الثانية لأداء امتحان الفيزياء و كنت أولهم .. و في التاسعة تماماً جاءت أوراق الأسئلة و كان الامتحان مدمراً .. أسئلة في منتهى الصعوبة و ( الفزلكة ) و التحوير .. و اندلع حريق في اللجنة و أخذ الطلاب يصيحون محتجين أما الفتيات فقد كفين أنفسهن مؤونة الصراخ و اللطم لأنهن اختصرن الموضوع .. و فضلن الإغماء مباشرة !

المهم أنه وسط المذبحة التي حدثت في لجان الفيزياء يومها ربما كان هناك طالب واحد هو الذي آثار رد فعله الدهشة والذهول وسط زملائه خاصة ممن كانوا معه في نفس الفصل .. وكان هذا الطالب الوحيد الذي أحتفظ بهدوئه هو أنا .. كما يفترض !

قيل لي أنني تسلمت ورقة الأسئلة و نظرت إليها باستهانة للحظة .. ثم فتحت ورقة الإجابة وأخذت يدي تتحرك بسرعة فائقة وكأنها ( مكوك ) مسجلة الإجابات ودون حتى أن أرجع إلى ورقة الأسئلة أو أنظر إليها مرة أخرى !

و لم ألبث أن انتهيت من الإجابة قبل مرور أقل من ربع ساعة .. و بقيت في مكاني أنتظر مرور نصف الوقت ؛ وهي الفترة القانونية التي لا يُسمح لنا بالخروج قبلها ؛ بينما كان زملائي في اللجنة يحدجونني بالنظرات المذهولة !

و أخيراً مضى نصف الوقت فنهضت من مكاني و سلمت الورقة إلى المراقبين .. ثم غادرت اللجنة تشيعني رغبات زملائي المخلصة في أن تدهسني سيارة سائقها الأعمى قبل أن أصل إلى بيتي !

و قبل أن تصل عقارب الساعة إلى الحادية عشرة كنت أطرق باب البيت في هدوء .. ففتحت لي أمي بوجه باسم مستبشر و سألتني بلهفة عما فعلته في الامتحان فأجبتها بهزة رأس و ابتسامة رضا .. ثم دخلت إلى غرفتي و أغلقت الباب خلفي معطياً أمي انطباعاً بأنني متعب و أريد الاستغراق في النوم !

..............................

نهضت من نومي الثقيل في الساعة الثانية عشرة ظهراً فوجدت الستائر مغلقة و النور الساهر الصغير الذي أبقيه مضاءً أثناء نومي مطفأ فعرفت أنني قد حظيت بزيارة أخرى من صديقي أثناء النوم .. كنت قد تذكرت فجأة موضوع الفيزياء و امتحان الفيزياء و مصيبة الفيزياء و شعرت بهول الكارثة التي وضعت نفسي فيها .. في هذه اللحظة كان هناك حفيف ثوب بجوار أذني فأدرت وجهي إلى الناحية الأخرى ؛ كما علمني ؛ و قلت دون أن أحاول إدارة وجهي أو النظر إليه :

- " ماذا .. هل هناك شيء هام ؟! "

فقال لي بصوته المماثل تماماً لصوتي :

- " لا شيء .. فيما عدا أنك ذهبت صباح اليوم إلى اللجنة وأديت امتحان الفيزياء وانتهيت منه قبل أي طالب آخر في مصر .. هذا ما تعرفه والدتك و ما رآه الجميع و لا يوجد شيء آخر يقال .. فقط يوم الثلاثاء تذهب إلى امتحان الرياضيات بمفردك .. لا تتوقع مني أن أنقذك ثانية ! "

ثم شعرت بفمه يلامس جانب وجهي بحنان و يقبلني قبلة مليئة بالحب و الصداقة ثم أردف :

- " إلى اللقاء يا صديقي .. أعتمد على نفسك ! "

وفجأة تلاشى وجوده من الغرفة .. و عاد النور الساهر الصغير للاشتعال و فُتحت الستائر من تلقاء نفسها .. و وجدت غرفتي تسبح في الضوء الباهر .. ضوء شمس الظهيرة !

و في نفس هذه اللحظة دخلت والدتي إلى الغرفة .. متسائلة عما أيقظني قبل أن أقضي نصف ساعة نائماً !

و لكن فجأة صمتت والدتي .. اعتراها ذعر مفاجئ و شحب وجهها .. تراجعت إلى الخلف و كادت تسقط على وجهها .. دق قلبي وقد أدركت ما أخافها .. أدرت وجهي ببطء إلى اليسار فوجدت صديقي منحنياً و مستنداً على الفراش بجواري و هو يتطلع لوالدتي بثبات و دون حركة !

..............................

دُهشت من هذا التصرف الغريب من جانب رفيقي !

ترى ما الذي دعاه للظهور علناً أمام والدتي و هو الذي كان طوال فترة تعارفنا الطويلة يصر على الالتفاف بثوب الغموض والتخفي و يصر على عدم الظهور إلا في الحمام ؛ أو في غرفتي بعد ذلك ؛ و بشرط أن تكون الأنوار مطفأة والستائر مسدلة .. فإذا به يظهر في وضح النهار لوالدتي ؟!

المهم أنه أختفى بعد أن أفزع أمي و سبب لها حالة لا توصف من الرعب و الذعر .. و لكن الخطير في الأمر أنه تكونت عند والدتي فكرة وعقيدة ثابتة أن هذا المخلوق عفريت أو قرين لي من الجن يلاحقني ولابد من طرده .. و لذلك فقد أفقت في صباح اليوم التالي ؛ و بعد ليلة مرهقة قضيتها في استذكار منهج الرياضيات العسير ؛ على رائحة بخور نفاذ تملأ البيت و تمتمات و همهمات غريبة فوق رأسي يرددها صوت مشروخ كئيب .. فتحت عيني و حدقت جيداً حولي فوجدت الدخان كريه الرائحة يعبق الغرفة و هناك بالإضافة إلى ذلك رائحة كريهة أخرى مختلطة برائحة البخور .. رفعت رأسي من فوق الوسادة لأجد أمامي أمي بوجه قلق ممتقع و إلى جوارها " نجاتي " أو من يطلقون عليه " الشيخ نجاتي " .. نصاب حينا المعروف و الدجال الأشهر في المنطقة .. و لابد أن أمي تخلت عن كل أفكارها المتحضرة المتدينة و قررت اللجوء لهذا الإمعة ليخلصني بدجله و نصبه من الجن الذي يلاحقني .. و المقصود به طبعاً رفيقي العزيز !

ضحكت لسذاجة أمي التي أصابتها ( على كبر ) و صرخت في وجه هذا الشيء المقيت وقمت بطرده من غرفتي بينما كانت أمي تتوسل إلى أن أهدأ .. فالرجل لم يحضر إلا من أجل مساعدتي .. و لكنني لم أكن على استعداد لسماع أي كلمة بخصوص هذا الأمر و لم أسترح إلا بعد أن غادر النصاب بيتنا بالفعل !

فشلت أمي في الجولة الأولي في الحرب .. و لكنها لم تفكر أبداً في إلقاء سلاحها و الاستسلام !

..............................

أنهيت امتحاناتي في السادس من يوليو و جلست في بيتنا بانتظار النتيجة بقلب مطمئن وبال مستريح .. و لكن والدتي لم تكن تشاركني اطمئناني و راحة بالى ليس بسبب النتيجة و لكن بسبب ( العفريت ) الذي رأته في غرفتي .. وكانت والدتي تردد دائماً وهي تبسمل و تحوقل مئة مرة في نفس واحد :

- " في عز النهار .. لابد أنه عفريت قوي .. جبار من جبابرة الجن ! "

وكنت أضحك لأقوال والدتي .. فهي لا تعرف رفيقي بطيبته و رقته بل وجبنه في أحيان كثيرة .. بل إنها لا تعرف أن صديقي يخاف من عفاريت الجن أكثر مما تخافهم هي !

المهم أنه و بعد أن انتهيت من أداء الامتحان وفي الجمعة التالية مباشرة قامت والدتي بتبخير البيت قطعة قطعة بكمية بخورهائلة ثم توجهت إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة ؛ و هي عادتها الأسبوعية ؛ و لكن ما لم يكن من عادة أمي الأسبوعية أن تعود من المسجد ظهر الجمعة مصطحبة معها شيخ المسجد الإمام " أحمد حسين يونس " !

تعجبت من ذلك الأمر و اعتراني الخوف والقلق على مصير صديقي العزيز .. فالشيخ رجل دين حقيقي واسع الإطلاع مثقف و بارع الذكاء و ليس مثل " نجاتي " الدعي النصاب الذي لا يعرف من آيات القرآن الكريم سوى سورتي الإخلاص و الكوثر !

حكت أمي الحكاية على مسامع الشيخ بحضوري .. طبعاً كنت واثقاً إنها قصته عليه خمسمائة مرة طوال الطريق ولكنها تتظاهر بالبراءة و إنها لم تفعل شيء من وراء ظهري .. المهم أن الشيخ سألني عما إذا كنت قد رأيت هذا المخلوق من قبل فأجبته بالنفي سريعاً .. و لكنه تفرس في وجهي لبرهة ثم لمعت عيناه بذكاء .. و أدركت أنه عرف أنني اكذب وخشيت أن يفضحني على مشهد من والدتي ولكنه ؛ و له جزيل الشكر ؛ لم يفعل .. بل أبتسم برقة و طلب من والدتي بأدب أن تحضر لنا شيء نشربه .. فهمت انه أراد أن يصرف والدتي ليختلي بي كما أدركت كم هو ألمعي و شديد الذكاء و تيقنت أنه لا فائدة من الكذب عليه .. و لذلك فبمجرد أن صرنا بمفردنا حتى اندفعت أحكى له كل شيء بصراحة و دون أن أغفل أي تفاصيل !

..............................

عادت أمي حاملة صينية عليها كوبين من العصير و ماء وسرت إذ وجدتني أنا والشيخ منسجمين معاً في حوار هادئ .. و لم تشأ أن تقاطعنا فوضعت الصينية أمامنا ثم انصرفت فوراً .. كنت قد انتهيت من رواية القصة بكل حذافيرها و بمنتهى الأمانة على الشيخ " يونس " .. و أستمع لي هو بانتباه كامل ثم بمجرد أن جاءت أمي بالعصير و الماء حتى تناول كوب الماء وجرع منه جرعة صغيرة .. ثم هم قائماً فأدركت أنه يغادر و دهشت لموقفه العجيب من قصتي .. و تعلقت بكم قفطانه في لهفة و لكن امسك يدي و ربت عليها بحنان و قال لي جملة لن أنساها ما حييت :

- " يا بني جميل أن تحظي برفيق مخلص حتى و لو كان من الجن ! و لكن لا تنسى أنك أنت و هو مختلفان و لا سبيل لتجاوز هذا الاختلاف مهما حاولتما .. فأحتفظ لنفسك بمسافة مأمونة بعيداً عنه ! "

وغادر الشيخ المنزل دون أن يضيف المزيد ودون أن يحاول توضيح قصده من هذا الكلام العجيب .. و جاءت والدتي مسرعة على صوت انغلاق باب الشقة متسائلة في دهشة عن سبب مغادرة الشيخ قبل أن يقوم بطرد ( العفريت ) .. أما أنا فلم أجبها بكلمة واحدة لأنني كنت غارقاً في العرق البارد ومحاولاً استحضار كل ذكائي و فطنتي لأتمكن من فهم كلام الإمام الغريب الذي لم يخطر لي على بال أن أسمعه من شخص مثله !

..............................

ظهرت النتيجة وحصلت على مجموع يؤهلني لفتح باب كلية الهندسة بإصبعي الصغير .. و غمرت الفرحة والدتي وأبي وكل الأسرة و انهالت على الهدايا من أبواي ومن جدتي ومن أقاربي الأدنين .. وبمجرد أن استطعمت فرحة النجاح حتى بدأت مرحلة التنسيق و مكتب التنسيق و بلاوي التنسيق .. و طلبت منى أوراق و أوراق لم أسمع عنها منذ ولدت .. و لكن الفضل في وصولي لهدفي في الحقيقة يرجع كله لرفيقي العزيز الذي أنقذني في امتحان الفيزياء وهي المادة التي رفعت مجموعي إلى حدود المائة في المائة !

في شهر سبتمبر وصلتني بطاقة الترشيح لهندسة القاهرة فانطلقت زغاريد والدتي وعم البيت سرور جنوني !

ولكن في نفس هذه الليلة جاء رفيقي لزيارتي بينما كنت مستغرقاً فدى نوم عميق في غرفتي .. أحسست بشئ يتحرك عند قدمي في الفراش ففتحت عيني على الفور لأجده قابعاً عند قدمي متكوراً على نفسه و رأسه بين قدميه وهو يئن أنيناً غريباً !

ذعرت لرؤيته بهذا المنظر وانخلعت من فوق وسادتي وطوقته بذراعي و أنا أتسائل عما دهاه و لكنه واصل أنينه الغريب لأكثر من نصف ساعة دون أن يرفع رأسه من بين قدميه .. و أخيراً رفع وجهه مواجهتي فأصابني الرعب .. كان وجهه مسوداً قاتماً وعينيه حمراوين مليئتين بدموع أكثر مما يغرق وجهه منها .. أخذته في حضني وبذلت جهدي لتهدئته .. و لم أتمكن من تهدئته إلا بعد أكثر من ساعة و حملته على الكلام بالقوة و لكن لم يزد ما عرفته منه على جملة واحدة تحمل خبراً صادماً لي و مدمراً له .. حبيبته الحسناء التي كان قد وعد بزواجها .. ماتت !

..............................

مرت فترة و بدأ صديقي يهدأ وحاولت قدر استطاعتي أن أنسيه أحزانه و تقريباً لقد قضيت كل الأيام التي تبقت من الإجازة الصيفية ملازماً إياه في غرفتي ليل نهار حتى ظنت أمي أنني مريض !

المهم أنه في الثالث عشر من سبتمبر كان أول يوم لي في جامعة القاهرة .. و كلية الهندسة ؟!

الحلم الذي مات غيري على بابه... ها أنا أصل إليه باجتهادي و بمساعدات رفيقي العزيز المخلص !

كان جدول المحاضرات موضوع في واجهة مبنى الكلية من الخارج .. فنقلت جدول محاضرات السنة الأولى مبتهجاً ثم دخلت أول محاضرة جامعية في حياتي !

بالفعل مواد الهندسة هذه بشعة .. صعبة للغاية حتى أن الرياضيات والفيزياء التي كادت تقضي علينا في الثانوية العامة تبدو بجوارها مجرد مزحة صغيرة !

كدت أصعق في المحاضرة الأولى و أنا جالس أمام أستاذ مهيب ؛ يبدو كأنه ( لورد إنجليزي ) نسيته أمه في الأتوبيس السياحي ؛ لا أفهم كلمة من الرطانة التي يلقيها علينا وكأنه يلقفنا بالحجارة .. و كانت زميلتي الجالسة تغمغم بكلمات ساخطة دلتني على أنها هي أيضاً لا تكاد تفهم شيء مما يقوله ( البروفسور جيلديا ) هذا !

والحقيقة لقد كدت أيأس وأفكر في تحويل أوراقي إلى كلية الحاسبات والمعلومات لولا أنني اختلست نظرة صغيرة من زميلتي هذه .. و كانت هذه النظرة كافية لإثنائي عن قرار التحويل حتى لو ضربوا كلية الهندسة بالقنابل النووية !

..............................

كانت بارعة الجمال حسناء للغاية كأنها تركية من بقايا أسرة " محمد على " و لكنها كانت مصرية مائة في المائة .. بل ( تربية حواري ) إذا شئتم الحق فهي من أعماق الأحياء الشعبية التي تحتفظ ببقايا مصر الحقيقية .. تفطر فول بالزيت الحار ومعه و لابد فحل البصل المقدس .. و تتغذى باذنجان مقلي و سلطة و تتعشى جبنة و فول وتتناول ( الزفر ) في المناسبات السعيدة أو من بقايا الخروف الذي ذبحوه يوم خرجة جدتها !

ولكنها في كلية الهندسة و تدرس بإصرار أبيها الذي يقتطع من قوته ليعلمها هي و أخوتها .. الحقيقة أنني سقطت في غرامها من اللحظة الأولى و أحببت مواد الهندسة من أجلها .. و حرصت على ألا أفوت محاضرة لأنها هي بدورها لم تكن تفعل !

المهم أنه بعد أسبوع واحد كنت قد وقعت في غرام أهوج متسرع لم أقدر خطورته إلا بعدها بأشهر !

..............................

رفيقي بدوره كان قد بدأ في التحسن وإن كانت علامات الحزن العميق قد انتقلت من وجهه إلى عينيه اللتين لم تكونا تعرفان من قبل سوى السرور والطيبة والشقاوة والنزق وساعدته أنا بكل قواي على تجاوز هذه المرحلة .. حتى لقد كنت على استعداد أن أتخلى عن أي شيء في العالم مقابل عودته لطبيعته السابقة ..

وفي يوم أسود لن أنساه عرضت على صديقي أن يرافقني إلى الجامعة مساءً ليرى هذه ( الجامعة ) التي يدرس فيها هؤلاء البشر على مدار أعوام طويلة ما يقدر هو على تعلمه في ثلاث دقائق لا أكثر !

كان لدي محاضرة في الثامنة مساءً يومئذ و وجدتها فرصة مناسبة ليرى صديقي العزيز حبيبتي الجميلة التي أهيم بها حباً كما يعرف هو منذ البداية .. و وافق صديقي على إقتراحى على الفور بسعادة .. و ليته يا ربي ما وافق !

دخلت من باب الجامعة وهو ورائي .. كان موجوداً في مكان ما في الفراغ الأسود المنتشر حولي و كنت أعرف ذلك و أشعر بوجوده و إن كنت عاجزاً عن رؤيته لأنه كان مختفياً عن الأنظار .. و بمجرد أن صرنا داخل الجامعة حتى أخذ يضحك ضحكاته الطلقة المرحة و هو يتساءل كيف نتكدس كلنا داخل هذا ( الجب الضيق ) .. أي الجامعة طبعاً !

لم أعلق على أسئلته لأنه يقارن عالمنا بعالمه .. و عندما اقتربت من باب الكلية وجدتها واقفة في انتظاري .. إنها هي الحبيبة الغالية .. طبعاً كانت تتظاهر بأنها تنتظر إحدى زميلاتها إلا إن تظاهرها لم يخل على و تأكدت أنها لم تكن تنتظر أحداً سواي !

اقتربت منها ببطء متصنعاً الانشغال بكتبي التي في يدي ، و هي بدورها كانت تتشاغل بالنظر في الاتجاه الآخر لكيلا أدرك أنها كانت تنتظر رؤيتي .. كنا نلعب معاً لعبة المراهقة العزيزة هذه عندما سمعت شهقة عالية حارة صادرة من صديقي الملازم لي من الخلف .. كانت شهقة غريبة ملهوفة وكأنها شهقة ( غريق ) .. ألتفتت ورائي بدون وعي ؛ و قد اختفت الفتاة من أمامي فجأة ؛ و سألته بقلق :

- " ماذا .. ماذا ؟! "

فأجابني بصوت ملئ باللهفة :

- " إنها هي .. هي .. تشبهها تماماً ! "

لم أعرف ما يتحدث بالضبط فكررت سؤالي له فأعاد إجابته مؤكداً لي بأنها هي نفسها .. أو تشبهها لحد مذهل !

لم أدرك قصده بالضبط و كدت أعاود سؤاله مرة ثالثة لأستوضح ما يعني .. و لكنني عندما بحثت عنه أدركت أنه لم يعد موجوداً حولي في أي مكان و ظللت واقفاً مكاني بضعة دقائق أفكر في المكان الذي قد يكون قد أختفى فيه .. لحظتها أدركت أنه و لابد قد سبقني إلى قاعة المحاضرات !

دخلت إلى القاعة المزدحمة فوجدت المقعد الذي بجوارها خالياً ، لابد أنه قد حجزته خصيصاً من أجلى .. سررت لذلك و تناسيت تصرف صديقي الغريب و تظاهرت بالبحث عن مقعد فارغ بالقاعة قبل أن أهم بالجلوس بجوارها ، و عيناها تدعوني إلى ذلك بفارغ الصبر .. فقط عندما حاولت الجلوس على المقعد المجاور لها أدركت أن هناك من سبقني إلى الجلوس عليه .. و ساعتها أدركت على الفور من هو ! نهضت كالملدوغ و قد أصابني الذعر .. و رأيت الفتاة ترفع حاجبيها في دهشة بالغة عندما حدث ذلك !

..............................

في تلك الليلة جاءني على غرة وأنا مستلقي وسط ظلام الغرفة !

شعرت به يقترب منى ويجلس على طرف الفراش عند قدمي .. و لكنني لم أنهض و تبادلنا الحديث وأنا ما أزال مستلقياً في مكاني !

قال لي بصوته الذي عادت إليه رنة الفرح و الشقاوة :

- " هل رأيتها ؟! إنها فاتنة .. فاتنة .. و الأكثر من ذلك أنها تشبه فتاتي تماماً .. لا بل إنها هي ! هل تعرف أن كل واحد من جنسكم له نظير أو قرين من جنسنا ؟! لابد أنها قرينة فتاتي .. أليس كذلك ؟! "

تركته يتحدث كيف شاء ثم أجبته بجملة واحدة :

- " رأيتها يا صديقي .. بل رأيتها قبلك ! "

تجلى لي وسط الظلام لحظتها و أقترب منى و طبع قبلة على خدي بطريقته القديمة و قال لي متوسلاً :

- " أنت لا تحبها .. أليس كذلك ؟! إنه مجرد إعجاب طفولي .. مراهقة متأخرة قليلاً .. أما أنا فقد قضيت عمري كله أحبها .. أنت ستتركها لي أليس كذلك .. أليس كذلك يا صديقي ؟! "

شعرت بيد غليظة تكتم أنفاسي فوجدت نفسي عاجزاً عن النطق .. و لكنه لم يرحمني بل أخذ يردد كالمخبول :

- " إن الله يحبني .. أعرف إن الله يحبني كثيراً .. لذلك فقد أعادها لي من رحم الموت ..أنتزعها من القبر و أعادها لي .. الآن يمكنني أن أخذها إلى أرضي و نتزوج هناك ونعيش حياتنا بسعادة .. هل تعلم إنه يمكننا الزواج من جنسكم .. و سيكون زواجاً سعيداً بلا شك .. نعم سيكون زواجنا سعيداً للغاية .. و ستشهد بنفسك على ذلك ! "

أصابني الغم عندما نطق بهذه الكلمات و صعبت على نفسي جداً و لا أدرى لم .. و هكذا وجدت دموعي تسيل بغزارة دون إرادتي .. وجدت نفسي أبكى بكاءً طفولياً و وجدتن غير قادر على إيقاف ذلك !

..............................

أخذ يتردد على كل يوم تقريباً ليحكي لي تفاصيل غرامه الجديد .. لم يكن يفعل ذلك لإذلالي وإغاظتي وكنت أعرف هذا و واثق منه و لكنني كنت وما زلت صديقه الوحيد في الكون .. فلمن يذهب و لمن يحكي إذا لم يكن لي أنا !

من ناحيتي حاولت نسيان الفتاة واجتهدت في الابتعاد عنها قدر أمكاني .. بل وانقطعت عن حضور المحاضرات في الكلية من أجل خاطرها .. و واظبت على التردد على زميل لي تعرفت عليه مؤخراً لأنقل منه المحاضرات و ليساعدني في استذكارها .. و هكذا امتنعت عن رؤيتها لأكثر من أسبوعين .. و لا تدري مدى الغم الذي أصابني خلال تلك الفترة السوداء من حياتي ففترت شهيتي للطعام و أصبحت أعافه بشكل مثير للانتباه و فقدت مرحى و اختفت الضحكات نهائياً من فوق ثغري و أصابني أرق غريب جعلني أقضي طوال الليل أستجدي النوم حتى بزوغ الفجر دون جدوى ثم يسلمني لنوم كئيب ثقيل كنوم الأموات كنت أستيقظ منه في العصر شاعراً بالبلادة والإكتئاب والملل من حياتي .. وبالرغم من انقطاعي التام عن الذهاب إلى الجامعة فإنها لم تنقطع عن السؤال عني يوماً واحداً .. كانت تتصل بي على هاتفي المحمول عدة مرات كل يوم ، فإذا امتنعت عن الرد عليها ؛ و هو ما كان ما يحدث دائماً ؛ كانت لا تتردد في الاتصال بي على تليفون البيت منتحلة شخصيات عديدة !

المهم أنني حاولت بكل طاقتي نسيان الفتاة وشطبها من حياتي من أجل إرضاء صديقي و رفيق عمري العزيز .. و لكنني بعد مرور ثلاثة أسابيع كنت قد وصلت لمرحلة السعار .. اشتقت إليها وإلى رؤية ملامحها و سماع صوتها حتى لم أعد قادراً على المقاومة .. سأذهب لرؤيتها مهما كان الثمن !

..............................

ذهبت في صباح يوم أثنين رطب بهيج و دلفت إلى داخل الجامعة .. و كان أول ما وقع عليه بصري هناك هو فتاتي الحبيبة .. جالسة على سلم كلية الهندسة تتحدث في المحمول الخاص بها و تضحك بمرح !

ولا أستطيع أن أصف لك رد فعلها عندما رأتني أقترب من مجلسها على سلم الكلية .. أسرعت بإنهاء المكالمة وألقت التليفون في حقيبة يدها بسرعة ثم انتفضت واقفة وأخذت تبادلني النظر في شوق و لهفة .. و أعرف أنه لولا خجلها و أدبها لرمت بنفسها على و أوسعتني تقبيلاً و تعلقت برقبتي !

المهم أنني وصلت عندها و سلمنا على بعضنا و تبادلنا حواراً ودياً مبتوراً و لكن النظرات الدافئة كانت أبلغ من أي كلام .. كنت حتى هذه اللحظات لا أفهم كيف يتمكن رفيقي من رؤيتها و التواصل معها .. و لكنني عرفت الآن و فهمت ما كان يجري في غيابي عنها بالضبط .. فبعد عدة دقائق من لقاءنا سألتني حبيبتي وعيناها تضحكان و تلمعان ببريق السعادة :

- " هل أنت وسيط روحي أم أن لديك قوة روحية خفية ؟! "

فسألتها و قد بدأ الشك يساورني :

- " لماذا تقولين ذلك ؟! "

فأجابت بنفس ضحكتها الصافية :

- " لأنني أراك في أحلامي كل ليلة تقريباً .. كل ليلة أوي إلى فراشي و بمجرد أن أغمض عيني أجدك أمامي تتحدث معي كما نتحدث الآن ! و لكنك انقطعت عن الحضور إلى الجامعة منذ أسابيع .. لماذا ؟! "

وهنا أدركت أن رفيقي لا يُغلب وأنه مصر على الاستئثار بالفتاة .. و مصر على حرماني منها !

وعندما وصلت إلى هذا الحد من التفكير بدأ شعور غريب ، شعور دخيل يدب في عروقي ناحية رفيقي الذي لم أشعر نحوه أبداً إلا بالحب و الصداقة و الأخوة البالغة .. شعور بالغيرة و الحقد و الرغبة في الانتقام !

..............................

جاءني يسعى هذه الليلة .. كان سعيداً منتشياً و يبدو كالطفل من فرط سعادته و فرحه .. جلس على طرف الفراش بجواري ثم أقترب منى و قبل خدي برفق ثم مسح على شعري بيده الناعمة اللطيفة وقال لي و هو يكاد يرقص فرحاً أنه عثر على حل يمكنه من الارتباط بالفتاة و الزواج بها و لكنه مضطر من أجل تحقيق ذلك إلى التخلي عن طبيعته وانتحال شخصية آدمية .. و ما أسهل ذلك عليه !

كنت راقداً مديراً وجهي عنه إلى الناحية الأخرى و هو يتكلم .. و بمجرد أن فرغ من كلامه قلت له دون أن أنظر ناحيته :

- " ولماذا يجب أن تكون أنت الذي يتزوجها ؟! "

فصمت قليلاً ثم سأل بحذر :

- " ماذا تقصد ؟! "

فقمت من رقدتي و استدرت لأواجهه و قلت له بشجاعة لم أعهدها في نفسي من قبل :

- " أقصد أنني رأيتها قبلك و أحببتها قبلك .. و في الأصل هي لي أنا و ليست لك ! "

مرت نظرة غريبة في عينيه ثم أجابني بهدوء :

- " إنها تحبني يا صديقي .. أنت لا ترى كيف تستقبلني كل ليلة ! "

فاحتددت عليه و صرخت فيه :

- " إنها تظنك أنا ! إنها تحبني أنا و تظن أنك أنا .. كما أنها تسعد بك لأنها تظن نفسها نائمة تحلم ! "

- " دعها تظن كما تريد .. المهم أنني أرى نظرات الحب في عينيها و أنا أحادثها كل ليلة ! "

كدت أجن و أنا أجيبه متحدياً :

- " إنها لا تحبك .. إنها ليست من جنسك و لا من أرضك و لا تصلح لك يجب أن تفهم ذلك ! "

فأجابني متحدياً بدوره :

- " يبدو أنك أجهل بنا مما ينبغي ! نحن قادرون على الزواج منكم و العيش معكم وفقاً لشروطكم دون مشاكل .. بل يمكننا الحصول على أطفال أصحاء ممتازين منكم .. بل ربما كان الأطفال الذين يأتون نتيجة زواج مشترك بيننا و بينكم أكثر تميزاً و تفوقاً من الخلص ! و أعدك أن أول طفل سنحصل عليه أنا و هي سيحمل أسمك و ستكون أباه الروحي ! "

هنا وصل جنوني إلى نهايته فصحت في وجهه غير مبال بأن تسمعنا أمي الجالسة أمام بابي مباشرة :

- " إنك لن تتزوجها ! يجب أن تفهم أنني لن أتركها لك ! "

لحظتها شعرت بألم حاد مفاجئ في جانب وجهي الأيسر و في نفس اللحظة أختفي رفيقي تماماً و لكن ليس قبل أن يقول لي بنبرة قاسية غريبة لم أسمعها في صوته من قبل :

- " حاول أن تمنعني إذن ! "

للحظة ظللت جالساً في موضعي غير قادر على التحرك أو النهوض .. و عندما نهضت أخيراً أضاءت النور وتطلعت لوجهي في المرآة فوجدت على خدي الأيسر علامة حمراء طويلة .. علامة ملتهبة .. و عرفت أنها ضربة قوية من سوط رفيقي الناري الذي يحمله كل بني جنسه !

لقد جلدني بسوطه الناري !

وأنا واقف أتطلع للأثر الذي تركه رفيق عمري على وجهي أحسست بحقد و غضب لم أعرفه في حياتي من قبل ..إنه لم يكتفي بحرماني من حبيبتي ومحاولة الاستئثار بها لنفسه بل لقد تجرأ أيضاً على ضربي و جلدي .. أيخوفني ؟! أيهددني ؟! أيرعبني أبن " سموم " ؟!

لا والله .. فإذا كان هو أبن " سموم " فأنا أبن " آدم " .. لدينا مثل مصري يقول إن " أبن المرآة لا يغلبه إلا الموت " !

و قد أقسمت أن أغلبه و لو اقتضاني ذلك أن أقضي عليه نهائياً !

..............................

في صباح اليوم التالي ارتديت ملابسي و تناولت إفطاري وغادرت المنزل في موعد المحاضرة الأولى .. كنت هادئاً واثقاً من نفسي و مصراً على موقفي .. لماذا أخاف و أتنحي عن طريقه و أتركها له سهلة مواتية لقمة سائغة ؟!

ألا سحقاً للجبن و الخوف !

غادرت المنزل و وصلت إلى الجامعة في موعد المحاضرة بالضبط فدلفت بسرعة إلى قاعة المحاضرات قبل أن يصل الدكتور " أشرف كامل " الذي كان يمنع أي طالب من الدخول بعده .. كانت هناك كما تمنيت .. جالسة في مقعد بجوار الحائط الأيمن للقاعة .. وردة يانعة زاهية و جمالها كما هو لم يفقد ذرة من قوته ولكن في عينيها الجميلتين ارتسمت علامات حزن وكآبة صعقتني وشلت تفكيري ، فاتجهت نحوها مباشرة غير مبال بنظرات الزملاء الصريحة المنتقدة ؛ رغم أن القاعة كانت مليئة بالمقاعد الخالية خاصة في الركن الذي تجمع فيه الأولاد ؛ و جلست جوارها و أنا أواجه كل من ينظر نحوي بنظرة جريئة ثابتة تقول له باستهانة و حزم : " خليك في حالك و النبي ! "

و بالفعل فقد تشاغل كل منهم في نفسه و تركوني أنعم بمجاورتها في هدوء و لكن الغريب أنها هي لم تشعر بوجودي وكأنها لا تراني !

ظلت منصرفة عنى لحظة ففقدت صبري و همست منادياً إياها باسمها فنظرت إلى نظرة صغيرة خاوية .. ثم أقدمت على أغرب تصرف توقعته منها .. سحبت مقعدها مترين إلى الوراء و وضعته إلى جوار مجموعة من زميلاتها الفتيات و جلست دون أن تنظر إلى .. بل و ظلت طوال وقت المحاضرة و هي تتجاهلني تجاهل تام و كأنها لا تعرفني أصلاً !

أصابني الجنون وكدت أفقد السيطرة على نفسي وأنهض صارخاً في وجهها أمام كل الموجودين حولنا .. ولكنني تمالكت نفسي بالقوة و جلست على الجمر ثلاث ساعات حتى انتهت المحاضرة أخيراً وغادر الدكتور " أشرف " القاعة ونهض الزملاء وأخذوا ينسلون من القاعة جماعات جماعات .. وكانت هي وسط مجموعة من الفتيات و تحاول الخروج برفقتهم عندما توجهت نحوها و سحبتها من ذراعها أمامهن ، فغضبت هي و همت البنات بالاعتراض و لكنني قلت لهن في صفاقة :

- " أرجو أن تهتم كل منكن بشئونها .. إن هناك أمر مهم بيني و بين الآنسة يجب أن يسوى الآن ! "

وهكذا جذبتها رغماً عنها إلى أحد أركان كافتيريا الكلية و أجلستها أمامي و أرغمتها على أن تخبرني بسبب الجفوة الغريبة التي أستقبلتنى بها اليوم .. و بعد خمس دقائق كنت قد عرفت كل شيء و أدركت أن صديقي و رفيق عمري العزيز لم يكن خصماً شريفاً تماماً كما تصورت .. و ها هو ذا قد بدأ أولى خطوات لعبته القذرة .. محاولة جعلها تكرهني أنا لتحبه هو !

وحينها قررت أن أخبرها بكل شيء وأفضي إليها بسر عمري حتى و إن لم تصدقني أو اتهمتني بالجنون و اللوثة

صحيح أنه نجح في أول فصول المسرحية السخيفة التي يؤديها بمفرده .. و لكنني أقسمت ألا أعطيه الفرصة لإنهائها !

..............................

بعد خروجي من الكلية مباشرة توجهت نحو صديق قديم لي أسمه " طارق علاوي " صديق طيب من الصعيد و خبير في كل شئون الحياة تقريباً .. خاصة شئون الدجل و السحر و طرد الأرواح و كل هذا الهراء !

لم يكن هو يمارس الدجل والسحر بل كان يعرف كل أكبار السحرة والدجالين في مصر على امتدادها من الإسكندرية شمالاً وحتى بلاد النوبة جنوباً .. استقبلني بحفاوة رغم التباعد الذي دام سنينا بيننا و رحب بي ترحيباً حاراً في بيته المتواضع بالجمالية .. حكيت له حكايتي قاصاً منها عدة خطوط مهمة و فصلتها في النهاية على الحد الذي يفهمه أغلب المصريين البسطاء أمثاله .. و هكذا أقتنع صديقي القديم أن هناك جنى قرين لى يطاردني و يسبب لي المشكلات و يمنعني من الاستذكار و يكاد يتسبب في فشلي و ضياع مستقبلي و تدمير حياتي !

و كما توقعت أبدي صديقي شهامة و جدعنة و استعداد تام لمعاونتي في التخلص من هذا القرين حتى و لو أضطره ذلك إلى الذهاب معي إلى آخر الدنيا .. و قبل أن أعود إلى بيتي كان قد أجري اتصالاته بمعارف مهمين ممن يفهمون في هذه الأمور و اتفقوا جميعاً و رشحوا لنا شيخاً واصلاً ؛ قيل أنه الوحيد القادر على طرد القرين من الجن بنجاح ساحق ؛ أسمه الشيخ" مصطفى " .. المشكلة الوحيدة أنه يقيم في منطقة جبلية على مقربة من الأقصر !!

..............................

جاء لي مرة أخرى في ليلة الجمعة الأخيرة .. كان هادئاً خجلاً من نفسه و راغباً بشدة في مصالحتي والاعتذار عما بدر منه في لقاءنا الأخير .. أقترب منى و أنا راقد على فراشي متظاهراً بالنوم و قبل خدي برقته المعهودة التي كرهتها و همس لي :

- " ألم تشتق إلى ؟! لابد و أنك كذلك لأنني اشتقت إليك كثيراً يا صديقي ! "

لم أجبه بكلمة فدار من حولي و جاء من الناحية الأخرى ليواجهني .. لم أكن أرغب في مواجهته و لا أعرف الآن ما إذا كنت غاضباً منه فقط لذلك كنت عازفاً عن مواجهته أم لأنني كنت أخشى أن يقرأ في عيني ما أنتويه له من غدر !

المهم أنني أدركت أنه لم يأتي إلى إلا لأنه يريد الحديث بشدة و لا يجد من يبادله الحديث سواي أنا .. فأنا صديقه الوحيد في الكون !

وعندما فكرت قليلاً وجدت أنه الأسلم والأحوط أن أتظاهر بمسامحته والصفح عنه ، وأن أحادثه بشكل طبيعي يجعله يعتقد أنني قد تناسيت موضوع الفتاة التي أحبها .. كنت أريد ألا ينتبه لما أدبره له .. و اجتهدت في مخادعته قدر ما أسعفتني فطنتي و أيضاً .. خستي و وضاعتي !

والنتيجة المهمة أنه أنصرف عني وهو على ثقة من أن المياه قد عادت لمجاريها بيننا .. و أن المحبة القديمة لم تمت بعد !

كل هذا كان يحدث في نفس اللحظة التي كان صديقي " طارق " يعد فيها العدة لسفرنا إلى الأقصر اليوم !

..............................

وصلنا إلى الأقصر في منتصف الليل بالضبط .. و نزلنا المدينة الساحرة التي أضحت كأنها قطعة من أوربا .. بل قطعة من الجنة إذا شئت الدقة .. و طبعاً لم يكن من الممكن الذهاب إلى الجبل في مثل هذا الوقت فاخترنا أحد فنادق المدينة الكثيرة وبتنا فيه حتى مجيء الفجر .. كان صبري قد نفد ولم أعد أحتمل أكثر من ذلك .. لهذا فما إن سمعت آذان الفجر يرطب ندى الصباح حتى أيقظت " طارق " ؛ الذي كان يغط في النوم و يشخر كأنه ترولى مثقوب .. و لم أصبر حتى نتناول الإفطار فهرعنا إلى موقف السيارات لنأخذ عربة تقلنا إلى أقرب قرية للجبل و في الطريق اشترينا بعض الفطائر و السندوتشات ألتهمها " طارق " كلها بمفرده لأنني لم أجد عندي أي قابلية لتناول الطعام .. و وصلنا إلى القرية الواقعة على مقربة من الجبل .. و غادرنا العربة و بدأنا نصعد الجبل الذي لم يكن في الحقيقة شاهق الارتفاع .. و صادفنا بضع أناس ذوي مظاهر غريبة كانوا يظهرون لنا على حين غرة و يبدون و كأن الجبل قد أنشق عنهم فجأة .. أصابني الخوف من مظهر الجبل القاتم المخيف .. بينما صديقي ؛ الخبير أبن الخبير ؛ أخذ يبسمل و يحوقل و يستعيذ بالله من شر الشيطان و من شر كهان الفراعنة الذين تسكن أرواحهم الجبل و تحرسه ..

و وصلنا في النهاية ؛ و بعد رحلة شاقة مرهقة ؛ إلى مقر المدعو " الشيخ مصطفى " .. و على عكس ما توقعنا فلم يكن مقر الشيخ الذائع الصيت أكثر من مجرد بيت وطئ مبني بالطوب الأخضر الذي شققته حرارة الشمس اللافحة و بضعة كسر من الأحجار متناثرة في حوائط البيت هنا و هناك و كان الباب مفتوحاً بلا أحد يرقبه .. و هكذا دخلنا دون أن نجد من يسألنا من نكون أو ماذا نريد ووجدنا أنفسنا في قاعة ريفية فقيرة مليئة بأكوام من الحطب المصفر الجاف وهناك و فوق كومة حطب صغيرة وجدنا امرأة عجوز منحنية و تبدو أنها كفيفة أيضاً .. كانت تمسك بيدها مسبحة كهرمان جميلة و تفر حباتها وهى تتمتم بالدعوات و التسابيح .. تقدم منها " طارق " و قال لها بلهجة صعيدية متقنة :

- " السلام عليكم يا حاجة .. دلينا و النبي على الشيخ " مصطفى " مش هو موجود برضه ؟! "

أومأت السيدة برأسها المجلل بطرحة بيضاء نظيفة ثم أشارت برأسها ناحية قاعة داخلية في المنزل وعادت لفر المسبحة و التمتمة وكأن شيء لم يحدث ..

و دخلت القاعة خلف " طارق " وجلاً خائفاً و قد استولت على فجأة فكرة الرجعة .. و كدت أسحب " طارق " من ذراعه و أجبره على العودة و لكنه كان قد سحبني بالفعل وراءه إلى داخل القاعة .. و بالتمام أصبحنا أمام الشيخ مباشرة !

..............................

عدنا إلى القاهرة في صباح اليوم التالي وكأننا كنا في نزهة صغيرة أو في جولة سياحية .. و لم يكن وفاضنا خاوياً بل كنا في الحقيقة ننوء بحمل ما طلبه الشيخ و ما أمرنا به من غرائب الأمور و العجائب التي لم أعرف من قبل بوجودها في الكون .. و الفضل في العثور على كل هذه الأشياء العجيبة إنما يرجع لـ " طارق " وحده الذي لف متاجر الأقصر المختفية في الأزقة النائية و جنبات الجبل ليحضر طرائف المواد و الأدوات التي لم أسمع عنها من قبل و التي من المستحيل أن تجدها لدي التجار أو العطارين المحترمين ..

و عدت إلى البيت و بدأت في تنفيذ كل أوامر الشيخ بالحرف مصراً على عدم ارتكاب أي هفوة قد تتسبب في إطالة المدة التي حددها للقضاء على العفريت الذي يلازمني و هي أسبوع واحد لا غير !

وهكذا ؛ و تنفيذاً لتعليماته ؛ بدأت بمرآتي غرفة نومي والحمام فحطمتهما تحطيماً كاملاً شاملاً و حملت كسرهما و أشعلت فيها النار في الشارع أمام منزلنا .. و عندما تعجبت والدتي من تصرفي هذا سألتني بقلق عن السر في ذلك قلت لها في ثقة :

- " ألم تكوني تريدين تخليصي من شر هذا الجني القرين الذي يلازمني ؟! حسناً أنا أتخلص منه الآن ! "

وكان هذا الكلام كفيلاً بإسكات والدتي تماماً و ضماناً لعدم تدخلها أواستنكارها لأي عمل جنوني أقدم عليه بعد ذلك !

ولما فرغت من مسألة المرايات بدأت في الخطوة الثانية وهي رش الخليط السحري في جميع منافذ و فتحات البيت .. و كان هذا الخليط ؛ كما قال لي الشيخ " مصطفى " ؛ عبارة عن ماء من بئر فرعوني قديم في الجبل كان الكهنة يستخدمونه لأغراض طقسية سحرية و زيت يسمى ( زيت الكاهن ) و زيت آخر أسمه ( زيت العريف ) و قليل من دمائي التي طلبها مني الشيخ و أعطيته منها بعد أن قمت بجرح إبهامي بموس حاد .. و قمت برش هذا الخليط حول النوافذ و أبواب الحجرات والمطبخ والحمام و حول باب المنزل الخارجي .. كل المنافذ .. كل المنافذ و الفتحات في البيت و من الداخل و الخارج أيضاً .. و لا أخفي عليك أنني كنت أقوم بكل هذا و أنا أشعر بالسخرية من نفسي و أحس إحساساً أكيداً أنها لن تجدي وأنها مجرد دجل و نصب .. و لكن ما رأيك إذا كانت هذه الأشياء التي قد تثير سخريتك مني قد أتت بنتيجة بالفعل .. و نتيجة سريعة لمستها بنفسي بعد بضع ساعات !

وأصل الحكاية أنني ؛ و قبل أن أعود إلى القاهرة ؛ أو بالتحديد و نحن ؛ أنا و " طارق علاوي " في القطار وفي منتصف المسافة بين الأقصر و القاهرة ؛ انتابني خوف غامض و شك رهيب .. فماذا لو أحس رفيقي بأنني أخطط للتخلص منه و إضعافه و ربما قتله كذلك ؟!

أعرف الإجابة على ذلك .. فما زال أثر سوطه الناري ؛ الذي ضربني به ضربة أشبه بالمزاح ؛ ماثلاً على خدي الأيسر .. و فشلت كل المراهم و الكريمات في إزالته أو حتى في تخفيفه !

ذعرت لهذا الخاطر المرعب الرهيب وأفضيت به بالفعل لطارق الذي قال لي باستهانة ولكن بثقة كاملة أعادت لي الطمأنينة و الإصرار :

- " هل تعتقد أن الشيخ مصطفى  يلعب ؟! أول شيء في التخلص من القرين ألا يدرك أنك تتخلص منه إلا عندما يبدأ يضعف و يفقد معظم قوته و عندئذ لن يضرك علمه بتدبيرك في شيء .. لأنه أصلاً سيكون قد فقد القدرة على إيذائك ! "

و في نفس تلك الليلة التي بدأت فيها تنفيذ تعليمات الشيخ الكثيرة المعقدة بدأت قصتي مع رفيقي تنتهي .. و إلى الأبد !

فليلة بعد ليلة كان يأتي إلى بجسد ضعيف خائر وبصوت لا يقدر على إسماعه و يشكو لي من متاعب غريبة بدأ يعاني منها و لا يعرف ما هو سببها .. و لا حتى أهله من عتاة الجن يعرفون و لم ينجحوا في علاجه .. و لا حتى في معرفة ما دهاه !

أمسرور أنا بهذا .. لا والله فأنا لم أعرف السرور منذ اليوم الذي غاب فيه عني و أنقطع عن زيارتي نحو شهرين كاملين .. و لكنه جاء الليلة مرة أخري .. جاء على حين غرة !

كنت جالساً إلى فراشي ألعب بقدمي وأحدث حبيبتي وأنا نائم على بطني كالأطفال أو كأبطال الأفلام الرومانسية الشهيرة .. كنت في قمة سعادتي هذه الأيام و أتمتع بلذة الحب صافية كاملة عذبة مقطرة .. فقد أختفى رفيقي من حياتي وحياة الفتاة أيضاً وأضحت لي .. لي وحدي !

وبينما أنا على هذه الحال فوجئت بالنور في الحجرة يتراقص و يذهب و يجيء مرات ومرات .. ثم أنقطع تماماً لمدة نصف دقيقة أصبحت خلالها الغرفة تسبح في الظلام الدامس .. ثم عاد النور فجأة و لكنه كان ضعيفاً خافتاً و أخذ يتقطع بشكل غريب .. لم يخامرني الشك للحظة في أن تكون اللمبة قد أعصابها عطب ما .. بل كنت واثقاً أن هناك شيء غريب يحدث !

وبالفعل فلم تكد السماعة تسقط من يدي حتى فوجئت برفيقي يتجسد في الغرفة .. ولكنه ليس ككل تجسد .. فقد ظهر في البداية على شكل كرة ملتهبة تصدر أضواء حمراء خاطفة تصاحبها أنات مرتفعة .. أنات ألم تشبه أنات و صرخات المحترقين .. فهل رفيقي يحترق !؟ هل يحترق الجن أصلاً ؟!

هببت من مكاني و قد أصابني ذعر لم أعرفه في حياتي من قبل .. كدت أهم بالصراخ والاستنجاد بمن في البيت .. و لكن علام أورطهم في موقف أكبر منهم و أعرضهم لخطر لا أدرك حدوده بعد ؟!

وأظلمت الغرفة ثانية .. ثم عاد الضوء الضعيف الخافت ثانية .. و في هذه المرة كانت الكتلة الحمراء الملتهبة قد تجلت ملامحها و أخذت شكلاً محدداً واضحاً .. شكل رفيقي العزيز !

رأيته راقداً عند قدمي بوجه شاحب وعينان تبخرت منهما الحياة و جسد سليب الحيوية .. رأيته راقداً بلا حول و لا قوة يتنفس أنفاس الموت .. رأيته و كان بإمكاني ؛ بل فكرت فعلاً ؛ في أن أقدم على ما أمرني به الشيخ و ما كرره لي مراراً :

- " عندما تراه ضعيفاً خائراً فأمسك بجفن عينه اليسرى و أغرز دبوساً رفيعاً ليقتله ! "

رأيت كل هذا وفكرت في كل هذا ولكنني لم أقدم على شيء من ذلك .. لماذا ؟!

لأنني أنا ؛ أنا الذي خططت ودبرت ونفذت بدم بارد وقلب ميت ؛ أرتجف قلبي لوعة و طفرت الدموع من عيني حينما أدركت أن رفيقي العزيز .. رفيق عمري و صباي و شبابي و حبيبي الوحيد حقيقة .. حقيقة يحتضر !

هرعت إليه وحملت رأسه و وضعتها على حجري . فتح عينيه و أبتسم لي .. ثم قال لي بصوت لا أكاد أسمعه :

- " أنه أنت إذن ؟ يمكنك الآن أن تشد جفن عيني اليسرى و تغرس دبوساً في رأسي .. لا تخف فلن أؤذيك حتى لو كنت قادراً على ذلك .. يعز على أن أفارقك و لكن يسعدني أنني لن أمت إلا على يديك أنت ! "

قال هذا فقط .. فقط ثم تركني وحيداً في الأرض و رأسه مسجاة في حجري !

..............................

أعذرني يا بني إذا كنت قد أطلت عليك في حكايتي .. و لكنني أحكي لك ما دفعني إلى أن أترك بلدي و أجوب العالم كله شرقاً وغرباً لأبحث عن السلوى و النسيان .. أربعين سنة دون أن أحظي بالراحة أو تغمرني نعمة النسيان بفضلها !

تبحث عن أثر سوطه الناري على خدي الأيسر ؟!

لا .. لن تجده .. فآخر شيء فعله حبيبي قبل أن يسلم الروح هو أن طلب مني أن أدني وجهي من شفتيه وطبع على خدي الأيسر قبلة محت تماماً أثر سوطه الناري .. إنني أحس بليونتها رغم مرور كل تلك السنيين وكأنه قبلني الساعة فقط .. و لكن للأسف فليس للقبلات أثر !!

إقرأ أيضاً....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق